Fri. Apr 19th, 2024

Alaa Alkhatib

علاء الخطيب

ترامب يهدم الفوضى الخلّاقة

علاء الدين الخطيب

عن شبكة جيرون، 6 كانون الأول / ديسمبر، 2016

الفوضى الخلاقة لم تكن حكرا على الشرق الأوسط، كما تمنى القوميون والاسلاميون وغيرهم ممن لا يستطيعون العيش دون نظرية المؤامرة، ولم تكن أيضا خلّاقة، بل هي فوضى أعقبت أخطاء السياسة الأميركية والغربية في تسرعها لبناء النظام العالمي الجديد، النظام الذي تبنته الولايات المتحدة بهدف رسم القرن الحادي والعشرين كقرن أميركي. ظهرت أول نتائج هذه الأخطاء في الأزمة المالية العالمية عام 2008-2009، تلك الأزمة بالواقع كانت أوضح مثال للفوضى التي تعم السوق العالمي، منذ أن أطلق ريغان وتاتشر عقال النيوليبرالية. Image result for chaos trump cartoon

توقعت كونداليزا رايس، ضابطة الإيقاع لجورج بوش وحبيبة الزعماء العرب، أن الخلاص من هذه الفوضى ممكن بتوجيهها إلى العالم الثالث وخاصة المنطقة الممتدة من شرق وجنوب المتوسط وصولا إلى وسط آسيا، على أمل أن تصيب الصين وروسيا في خواصرهم القاتلة، وبالتالي يمكن التحكم بأهم مناطق العالم جيوسياسيا وطاقيا. ثم حددت الولايات المتحدة استراتيجيتها بعيدة المدى التي تركز على الصين تحت اسم “المحور الباسيفكي Pacific Pivot” في أواخر العام 2010، فتبنى أوباما وهيلاري كلينتون هذه النظرية وبدءا العمل على عملية إدارة الفوضى في هذه المنطقة، بعد أن كان بوش وكونداليزا قد أضرما الفتيل في العراق. البعض من صناع القرار الغربي وخاصة الأميركي سمعوا تحذيرات الاقتصاديين الغربيين من أن الأزمة المالية العالمية لم تنتهي وأن الحلين الوحيدين الممكنين هما: إما أن يجلس صناع القرار المالي والسياسي من كل الدول مع بعض ويضعوا قوانين للسوق العالمي تضمن عدالة نسبية بين الدول، وهذا مستحيل موضوعيا؛ أو أن تشتعل الحروب في العالم. لقد اختارت السياسة الغربية الخيار الثاني لكن من خلال ما سموه “الحرب المتحكم بها عن بعد Proxy War“؛ فكانت الضحية الأولي انهيار الاقتصاد اليوناني وتداعي الاقتصاد الإيطالي والإسباني، وبدأت التجارب في ليبيا وأوكرانيا، ثم كان الامتحان الصعب في سوريا، (لا نقصد هنا أن ذلك تم وفق مخطط، بل العكس تماما هو نتائج غير محسوبة لبدايات تفجر الفوضى العبثية).

لم يلتفت صناع القرار الأميركي والغربي إلى ضرورة أن يوازي تطور النظام العالمي الجديد تطور في بنية النظام المسيطر على هذه الدول داخليا، فلم يعد مبدأ “دعه يعمل، دعه يمر”، الذي منح الرأسمالية النصر النهائي لحد الآن، قادرا لوحده أن يحمي اتفاقيات تحرير التجارة والشركات العابرة للقارات، بينما تبقى البنية الاقتصادية داخل الدول الأغنى هي نفسها تقريبا، كما كانت منذ عقود طويلة. كبرى الشركات الغربية تضخمت وتوسعت عالميا، وتسارعت مؤشرات ربحها، لكن توزيع الثروة داخل بلادها الأم، الحامية لأصولها المادية والضامنة لأمان حركتها سياسيا وحتى عسكريا، بقي يتراجع ويزداد ظلما. وبنفس الوقت خرج العملاق الصيني من كبوته وبدأ ينازع السيطرة الغربية بنعومة، لكن بحزم وثبات، ساحبا معه الدب الروسي المتربص للحظة المناسبة.

مشكلة الحرية هي أنها جوهريا تقوم على الفوضى، سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي أو الدولي، ومع نظام عالمي يريد حرية كاملة بعبور الحدود، وزيادة تعقيد الشبكة المالية العالمية دون قيود، انتعشت الفوضى لتتجاوز النظام الذي اعتاد البشر وضعه كي لا تتطرف الحرية إلى فوضى. لقد كانت الفوضى نتيجة حتمية للنظام العالمي الجديد، الذي تم بناؤه على عجل.

هذه الفوضى امتدت إلى داخل الدول الخالقة لها، خاصة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية، وقلبت الموازين التي كانت سائدة. فكان أولا انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم انتصار رونالد ترامب في الانتخابات الأميركية أقسى صفعة تلقاها النظام العالمي الجديد.

من المعروف تاريخيا أن الفائز بالانتخابات الأميركية لا بد أن يمر عبر رضى اللوبيات المسيطرة على صناعة القرار الأميركي، وهذه اللوبيات بالواقع هي تجمع كبرى الشركات والمؤسسات المالية صاحبة المصلحة الأساسية، وحاملة الرخاء المعيشي للمواطن الأميركي العادي، بالإضافة للوبيات يسمونها “اللوبيات الغير ربحية”، والتي بعمقها امتداد للوبيات الاقتصادية والمالية. فماذا حدث مع ترامب؟

لم يحظى ترامب بدعم كبرى اللوبيات الأميركية، بل وحاز أيضا على سخرية وهجوم غالبية الإعلام الأميركي، ورفض غالبية المشاهير الأميركيين له، سواء فنانين أو مفكرين أو إعلاميين، وحذر منه كبار السياسيين، بمن فيهم عديد من زملائه الجمهوريين، لكنه مع ذلك فاز بالرئاسة. فوز الرجل لم يكن مفاجئا، بمعنى أنه خارج سياق مسيرة بنية السوق الأميركي، بل كان الظهور الأخطر للإشكالية المعقدة في المجتمعات الغربية، إنها الفوضى العبثية التي نتجت عن الفوضى العالمية في السوق، والتي لم يمنحها صناع القرار واللوبيات ما يكفي من اهتمام ورعاية، لأن ذلك مكلف جدا ولن يأتي بمرابح كبيرة وسريعة، لقد اعتقدوا أن ماكينة السوق والمال والإعلام ستتابع إدارتها للماكينة الانتخابية، لكن الظاهرة الترامبية حركت المستنقع بما قد يتحول إلى إعصار، إن لم يتحرك السوق بحكمة وبعد نظر.

وعودة للوراء قليلا لكن في بريطانيا، فلقد أتى التصويت الشعبي على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مناقضا أيضا لمصالح كبرى الشركات والمؤسسات المالية البريطانية، ورافضا لتوجهات كبريات وسائل الإعلام البريطانية، ولآراء النخبة البريطانية، هذا الرفض الغير معتاد بالغرب أيضا دلالة على انتشار خطير للفوضى العبثية. لا أريد القول هنا أن النظام العالمي المحكوم من قبل الشركات العابرة للقارات هو الأصلح، لكن مغامرة هذه الشركات الشرهة للربح السريع خلقت فوضى غير متحكم بها، تهدد بقلب النظام العالمي لكن من خلال كوارث عالمية ربما لم يشهد التاريخ البشري مثيلا لها؛ الانتقال الواعي من هذه المرحلة هو أكبر التحديات التي تواجه البشرية.

لم يثبت فوز ترامب فقط أن نظرية الفوضى الخلاقة، هي بالواقع فوضى عبثية، بل أيضا حطم فوز ترامب أسس نظرية المؤامرة، بأن هناك تجمع بشري صغير ما يدير مصير العالم والبشر. لا يمكننا شكر ترامب، على عنصريته وتعصبه ونرجسيته، لكن يمكننا شكره على أنه فضح مبكرا عبثية الفوضى التي أطلقها النظام العالمي الجديد، وربما يكون أول المتعظين من هذا الدرس هو الشعب النمساوي الذي شارك بنسبة 73% في الانتخابات الرئاسية المعادة في 4 كانون أول/ديسمبر فصوت لصالح المرشح المستقبل فان ديربيلين وأعلن رفضه لممثل اليمين المتطرف نوبرت هوفر، إذا ما زال هناك أمل بصد هدير الفوضى العبثية في العالم.

22/01/2017

رابط مختصر للمقال: http://wp.me/P2RRDZ-xn