Fri. Apr 19th, 2024

Alaa Alkhatib

علاء الخطيب

ما بعد الحقيقة عربي قبل أن يكون غربيا

 8 كانون ثاني 2017

علاء الدين الخطيب

أطلق مجمع اللغة الألمانية Gesellschaft für Deutsche Sprache، وهو مجمع يهتم بتطور اللغة الألمانية، في عام 1971 تقليدا سنويا يقضي بالتقصي عن كلمة السنة، التي تكون عادة الكلمة الأكثر استخداما وتعبيرا عن المزاج العام السائد، وجرت عادة المجمع أن يصدر نتائج دراسته في الشهر الأخير من كل سنة. فكانت كلمة السنة 2015 هي Flüchtlinge أي اللاجئين، وقد وجد هذا المجمع أن كلمة السنة 2016 هي كلمة “Postfaktisch“، ويمكن ترجمتها إلى “ما بعد الحقيقة”؛ أيضا اختار معجم أوكسفورد نفس التعبير باللغة الإنجليزية Post truth ليكون كلمة العام 2016.

ما بعد الحقيقة مصطلح يشير إلى ازدياد ميل الناس إلى تشكيل آرائهم وقناعاتهم بناء على المشاعر أكثر منها على الحقائق بما يتعلق بالشؤون السياسية والعامة؛ فيزداد رفض الناس لتقبل الحقائق وقبول حتى الكذب المفضوح؛ مما حدا بالمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل إلى تسمية هذا الحقبة الزمنية بعصر ما بعد الحقيقة، حيث قالت: إن الناس لم تعد مهتمة بالحقائق، إنها تفضل الاحتكام لمشاعرها الفردية.

ظهر هذا المصطلح خلال العقد الأخير في أوروبا والولايات المتحدة، وقد تناولته العديد من الدراسات بالتحليل، والتي أجمعت بغالبيتها أن عصر ما بعد الحقيقة أو سياسة ما بعد الحقيقة هي ظاهرة ناتجة عن انفجار الثورة التقنية والتواصلية وبالتالي ازدياد سيل المعلومات، الناتج عن التوسع الهائل لشبكة الانترنت في العالم، وعمل العديد من المؤسسات الإعلامية، بما فيه الممولة حكوميا، في إعادة صياغة المعلومات لتضليل الرأي العام عن الحقيقة في بلادها أو البلدان المنافسة. وقد استغل عدد كبير من السياسيين هذا الميل الشعبي المتصاعد لقبول ما بعد الحقيقة في صعودهم السياسي، مثل دونالد ترامب ومعسكر البريكسيت Brexit في المملكة المتحدة واليمين الأوروبي المتطرف، رغم أن كبريات الوسائل الإعلامية المعروفة كانت ضدهم، وتفضح أكاذيبهم. تحليل هذا الميل الشعبي وتفسيره يحتاج لبحوث علمية كثيرة، يجري العمل عليها في العديد من دول العالم (عدا دول منطقتنا)؛ إن ميل الشارع الغربي لتصديق الأكاذيب على حساب الحقائق، يرتبط بشعور غضب عام تصاعد بعد الأزمة المالية الأخيرة عام 2008، وبالتالي تزايدت مشاعر القلق حول المستقبل، هذا الغضب تجلى برفض ما يقوله السياسيون ووسائل الإعلام والنخبة الغربيون التقليديون. كذلك فإن تعقيد العالم في العصر الحديث صار عصيا على فهم كثير من النخبة العلمية، فكيف الحال مع العامة من الناس؛ فمنْ مِن عامة الناس يستطيع الاستماع لشرح حول اتفاقيات تحرير التجارة التي تقع في آلاف الصفحات، وتأثيرات معامل التضخم والفائدة والضرائب وتعقيدات السوق المالية، أمام طرح سطحي، لكنه واضح يلمسه الناس مباشرة، يقول أن سبب تراجع الحالة الاقتصادية في أوروبا الغربية هم اللاجئون والأجانب؛ ومن سيتقبل تحليلا معمقا لظاهرة الإرهاب القاعدي الإسلامي، أمام طرح ساذج بسيط يقول أن المشكلة هي كون كل مسلم مشروع إرهابي.

أجرت جريدة الإيكونوميست الأميركية بحثا حول ظاهرة الميل المتزايد للناس نحو منهج ما بعد الحقيقة، فوجدت مثلا أن معدل جرائم القتل، وفق الاحصائيات الرسمية، في انخفاض مستمر في الولايات المتحدة ووصل في 2015 إلى حوالي 4.5 جريمة لكل مئة ألف مواطن، بينما أصر ترامب أن معدل الجرائم وصل مستوً قياسيا، ووفق استطلاع أجراه معهد غالوب وجد أن من يصدقون ترامب، مصرون أن معدل جرائم القتل وصل في 2015 إلى 70 جريمة لكل مئة ألف مواطن. كذلك فقد ألف إريك أوليفر Eric Oliver من جامعة شيكاغو، كتابا حول نفس الظاهرة تحت عنوان “أميركا المسحورة: الصراع بين العقل والحدس في السياسة الأميركية”، وقد رصد من خلاله زيادة تأثير ما سماه “التفكير السحري magical thinking” على التيار الشعبي اليميني الأميركي.

بالعودة إلى ديارنا النازفة نجد أننا نعيش عصر ما بعد الحقيقة بكل سلبياته ومآسيه، وأكثر بكثير من الشعوب الغربية، لأن الصراعات في منطقتنا إكثر احتداما وتنوعا؛ فالإسلامية المتشددة القائمة على مباديء الجهاد والولاء والبراء، والقوميات الشعبوية ما زالوا يزيدون في حجم الكذب، من خلال استغلال المشاعر الجمعية وتسطيح قراءة الواقع ومشاكله، اعتمادا على نظرية المؤامرة الكونية وهي من أخطر أشكال ما بعد الحقيقة؛ بل حتى إن غالبية ما يسمى اليسار و الليبرالية ما زالت أسيرة نظرية المؤامرة الكونية، لكن مع تجميل حداثي الشكل؛ بالإضافة لذلك فإن صراع جميع الحكومات ضد كل الحكومات، وكلهم ديكتاتوريات أكل الزمن عليها وشرب، أدى إلى أنه من النادر أن نجد أي قناة إعلامية كبيرة أو صغيرة تقدم الحقيقة للناس. يمكننا الجزم أن عصر ما بعد الحقيقة بدأ في منطقتنا قبل الغرب بكثير، لكن لم يتصدى أحد لرصده ومتابعته بالتحليل، ربما خوفا من طغيان ما بعد الحقيقة، أو خوفا من السلطة السياسية والسلطة الدينية، وقد يكون أيضا استسلاما للمريح من مناهج التفكير التقليدية السهلة. هذا السلوك المريض للوعي الجماعي بحاجة لدراسات وبحوث ورصد وجهود اختصاصية كبيرة، لكن على ما يبدو أنه حتى نخبتنا التقليدية تعيش عصر ما بعد الحقيقة قبل عامة الناس.

بالنظر إلى الحال السورية بمجهر الحقيقة، نجد أنه من النادر أن نرى مجموعة سورية ترى الحقيقة كما هي بدون أن تغلبها المشاعر وبالتالي الكثير من الأكاذيب، وأن كل مجموعة تبرر تناقضها مع الآخرين بأنهم يحملون الشرّ واللاأخلاقية في دمائهم؛ إنه تصديق الكذبة وخلق المبررات التي تبدو منطقية من حيث الشكل. فلو دققنا في صف من يسمونهم مؤيدين لوجدنا انتشارا ساحقا لفكرة المؤامرة الكونية على سوريا وقيادتها، من قبل الإمبريالية والصهيونية والوهابية والعثمانية، وأن ما حصل بسورية هو إرهاب سني غايته قمع كل غير المسلم السني؛ على الحيد المقابل نجد انتشارا ثقيلا لخرافات المؤامرة الكونية أيضا، لكن باستبدال الوهابية بالشيعية، والعثمانية بالفارسية، والإصرار على أن سبب المآسي هو كون النظام السوري نظام علوي، ولولا العلويين لكانت سوريا أفضل حالا من سويسرا. وحتى ما بين الحيدين السابقين نجد الهروب إلى أطراف تفسيرات المؤامرة من قبل عديد من الحداثيين، فيستبعدون كلمات الطوائف، ويرمون كل اللوم على جموع العامة من الناس “المتخلفين والمتعصبين”، فنجد العديد منهم لا يخفون فرحهم بترامب واليمين الأوروبي المتطرف، أي نفس المرض بالتعلق بما بعد الحقيقة.

أصبحت بضاعة ما بعد الحقيقة، في سوريا بعد ثورة 2011، بضاعة إعلامية مربحة لغالبية الإعلام الكبير ووسائل التواصل الاجتماعية، وسلاحا فعّالا لكل الأطراف المتصارعة، ففيض الأكاذيب الذي تم سوقه عبر هذه القنوات، والتي فضل الناس تصديقه بدل رؤية الحقائق، رسخ دوامة من الأوهام وزاد من الآثار الهدّأمة للصراع الدولي فوق سوريا.

 

 

شبكة جيرون

مراجع:

مقال بعنوان “شكرا ميركل على هذه الكلمة ما بعد الحقيقة”


مقال الإيكونوميست بعنوان “نعم، أنا سأكذب عليك”

 

 رابط مختصر

http://wp.me/P2RRDZ-xy