Thu. Apr 18th, 2024

Alaa Alkhatib

علاء الخطيب

المنتصرون والمهزومون في سورية

 30/10/2017

علاء الدين الخطيب

مقدمة

احتج بعض الأصدقاء عليّ، يوم استخدمت أحكام الذكاء والغباء، في وصف سياسات الدول المتورطة في سورية، وقد كان جوابي، أن معيار الحكم نسبي طبعا، وهو يعتمد ببساطة على معيار الربح والخسارة.

معيار الخسارة والربح في الصراع الدولي يتمحور حول سؤالين متتابعين:

1-    هل حققت الجهة المصارعة هدفها الاستراتيجي؟

2-    إذا كان الجواب نعم، فالسؤال كم كلفها هذا الربح؟ وبناء على مقارنة التكلفة بالربح يمكن الحكم أن هذه الجهة انتصرت أم لا.

2-    إذا كان الجواب لا،فالسؤال هل حقق الطرف الآخر هدفه؟ إذا كان الجواب “لا”، فالخسارة جزئية، وإن كان “نعم” فلا سؤالا يبقى، الجهة المتصارعة هُزمَت.

فمن ربح وخسر في سورية؟ ومن كان الأذكى والأدهى؟

قبل المتابعة، وبما أننا نحب المقارنات للقياس، يجب أن أوضح أن هذا المعيار في الذكاء والغباء، في النصر والهزيمة بين الدول، لا يمكن قياسه على البشر كأفراد. أما على مستوى الدول والصراع الجيوسياسي، فمعيار الذكاء بمعنى القدرة على رؤية الواقع والماضي، وفهمهما وتحليلهما والاستفادة منهما، للسير بنجاح نحو المستقبل هو معيار حاسم وواضح؛ لأن لا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يتحرك بيد القدر دون أسباب، فلا دولة تنهار أو تصعد لقمة القوة بالحظ. ولا يعني ذلك بالطبع، أن الدول الذكية والذكية جدا والأذكى لا تخطئ، فهذا مستحيل موضوعيا، الذكاء هنا من يستطيع معالجة نتائج خطئه ولا يقع به مرة أخرى في المستقبل.

من الواضح أن معيار ذكاء الدولة بالمعنى السياسي التصارعي الدولي، لا علاقة له بذكاء الأفراد في هذه الدولة أو تلك، فذكاء البشر من الأشياء القليلة الموزعة بالعدل بينهم. حتى القرن التاسع عشر كان لذكاء وشخصية الزعماء دور أساسي في نجاح الدول، لكن منذ منتصف القرن الماضي تراجع دور الزعماء ليحل محله “ذكاء المؤسسات”، فتاريخيا لطالما أسس زعيم ما دولة قوية، لكن ورثته أضاعوها في يوم وليلة، أما الآن فمن الصعب أن نتخيل أن بلدا سينهار لأن زعيمه مات، إلا إذا كان هذا الزعيم مثل بشار الكيماوي في سورية يرفض أن ينزل على العرش إلا مقابل حرق سورية. وفق ذلك نقول إن الولايات المتحدة الأميركية كانت أذكى من الاتحاد السوفييتي، فالولايات المتحدة استطاعت تحقيق الكثير من أهدافها الاستراتيجية ضد السوفييت وفي العالم، والثمن الذي دفعته بقي أقل من المرابح التي جنتها بانهيار الاتحاد السوفييتي؛ كذلك فإن إسرائيل حققت انتصارها على الفلسطينيين والعرب بمعيار تحقيق أهدافها الاستراتيجية وتكاليف الصراع. بمقارنة أخرى يمكن القول إن حافظ الأسد حقق انتصاره في لبنان بأن بقي، بعد ما يقارب الثمانية عشر عاما من الصراع، يمتلك سيطرة شبه كاملة على القرار السياسي اللبناني، لكنه كان انتصارا ناقصا لأن تكاليفه كانت عالية، وأسس بقائه مرتبطة بالمتابعة المستمرة والمكلفة للحال اللبنانية.

ماذا أرادت الدول المتصارعة فوق سورية وهل انتصرت أم خسرت؟

·        الحكومة الإيرانية ومن خلفها الروسية ومعهم الصينية، كان لهم هدف استراتيجي أساسي هو ضمان بقاء سورية في حلف استراتيجي مع إيران، ضمن الصراع المستمر بين إيران والسعودية ودول الخليج عموما، وبأسوء الحالات منع السعودية من ضم سورية لحلفها في مواجهة إيران.

ضمن هذا الهدف الاستراتيجي، هذا الطرف فشل في تحقيق ذلك، ولا توجد معطيات موضوعية تقول إن النظام الأسدي قادر على استعادة السيطرة وفرض الاستقرار، للبقاء كحليف مفيد لإيران. كما أن إيران وروسيا لم يستطيعا إيجاد البديل عن النظام، ولا توصلا لمقايضة رابحة مع باقي الدول. من ناحية ثانية، هذا الصراع كلف إيران وروسيا تكاليفا كبيرة جدا، مادية وسياسية ومعنوية، ولا يبدو للآن أنهما سيستطيعان استردادها مستقبلا.

·        الطرف السعودي أراد بعد تيقنه من استحالة بقاء النظام في خريف 2011 استغلال الفرصة للتحكم بشكل سورية المستقبلي ليكون ضمن علاقة تحالفية وتابعة للسعودية، خاصة في مواجهة إيران، وبأقل الأحوال ضمان أن سورية ستخرج من حلفها الاستراتيجي مع إيران.

لكن كما هو واضح، فالسعودية فشلت في إخراج إيران من سورية، بل ازداد وجودها، ولم تستطع فرض بديل حاكم لسورية؛ ودفعت الكثير من الكلفة المباشرة والغير مباشرة في هذا الصراع، ولعل أكبر هذه التكاليف أتى من الرد الإيراني عبر اليمن، حيث ما زالت السياسة السعودية تواجه خسارات متوالية.

·        الطرف التركي، لم يكن لتركيا مشكلة حقيقية في التحالف الاستراتيجي بين إيران وسورية عبر النظام الأسدي، لكن أيضا مع يقينها أن نظام الأسد لن يستطيع التحكم بسورية، فضلت أن تتوجه للتحكم بشكل سورية المستقبلي أيضا بحيث تصبح سورية أقرب استراتيجيا لتركيا وأكثر تبعية، وتوجهت في ذلك لاستخدام أداة الإسلامية السياسية عبر الإخوان المسلمين. والهدف الاستراتيجي الثاني لتركيا كان التحكم في أي مخرجات تخص الحالة الكوردية في المنطقة، أي ضمان عدم قيام أي شكل من أشكال الدولة الكوردية في الشمال السوري، ولا حتى شكل فيدرالي للشمال السوري.

أيضا تركيا لم تحقق أهدافها في اسقاط النظام، ووضع نظام بديل يحقق رؤيتها لسورية، لكنها نجحت لحد الآن في منع السوريين الكورد من بسط نفوذهم على كامل الشمال السوري. من حيث التكاليف قد تكون تركيا أقل الدول الإقليمية خسارة مادية في هذا الصراع.

·        الطرف القطري، قد تكون قطر أقل المتداخلين في سورية وضوحا في أهدافها الاستراتيجية، فرغم قلق كل حكومات الخليج العربي من طمع النظام الإيراني بالسيطرة الإقليمية، إلا أن قطر استطاعت أن تبني نوعا من التفاهمات التي تجنبها الصدام المباشر مع إيران. لكن كما يبدو من خلال سياسة قطر خلال العقدين الماضيين، فهي تسعى استراتيجيا لضمان استقرارها وأمنها ضمن محيط من الكبار يعج بالصراعات، وقد أرادت أيضا التحكم بشكل سورية المستقبلي، من خلال تحالفها مع تركيا.

مثل تركيا لم تحقق قطر أهدافها الاستراتيجية، ويمكن اعتبار ما حققته تركيا رغم صغر حجمه نسبيا في مصلحة السياسة القطرية.

·        الطرف الأميركي والأوروبي ومعهما إسرائيل، تتمحور الاستراتيجية الأميركية ومن ورائها الأوربيين منذ نهاية التسعينات وإلى الآن، في خلق بيئة عالمية متناسبة مع المصالح الأميركية والأوروبية، تم تسميتها النظام العالمي الجديد، والذي تتضح أهدافه في الاتفاقيات الدولية لتحرير التجارة وحركة رؤوس الأموال، ضمن هذا النظام العالمي، الذي تم بناءه على عجل، الطرف أو القطب الآخر المنافس والمصارع هو الصين والدول الصاعدة اقتصاديا بالإضافة لروسيا. لذلك فالهدف الاستراتيجي الأميركي في الشرق الأوسط وصولا لوسط آسيا، أي المجال الحيوي للصين وروسيا، هو التحكم بالصراع الجيوسياسي، أكثر منه تحقيق هدف محدد مثل إسقاط أو تقسيم دولة أو دول ما؛ لذلك وجدت السياسة الأميركية في صراع بقية الأطراف فوق سورية ما يكفيها مشقة التدخل الحاسم أو التورط، واكتفت بإدارة الصراع بحيث لا يصيب حلفائها التقليديين بمقتل، أي دول الخليج العربي وتركيا، ويزيد من حاجتهم إلى الدعم الأميركي، وبنفس الوقت يستنزف روسيا وإيران.

إذا فالطرف الأميركي، هو الطرف الوحيد الذي استطاع تحقيق أهدافه الاستراتيجية، فلم يخسر أي حليف استراتيجي تاريخي بسبب الأزمة السورية، وزاد من ضعف وخسائر روسيا وإيران. كذلك إذا اعتبرنا الطرف الأوروبي شريكا تابعا للأميركيين فهو قد حقق ربحه، لكن هذه الأزمة كلفته مشكلة طارئة هي مشكلة اللاجئين، التي لا تسبب خسائر اقتصادية لأوروبا، لكنها كانت ذات مفاعيل سياسية داخلية أكبر من المتوقع، فتعرض الجسد السياسي الأوروبي الداخلي لهزات كبيرة.

ميزان الدهاء السياسي

وفق هذه المقارنة، يمكن الاستنتاج أن كل الأطراف، ما عدا الطرف الأميركي الأوروبي الإسرائيلي، أظهروا في التطبيق العملي غباء جيوسياسيا في صراعاتهم فوق سورية، فكلهم لحد الآن خاسرون، ولا يلوح في الأفق أي انتصار لأي طرف، وكلهم تكلفوا الكثير على شكل كلفة مادية وسياسية ومعنوية، دون أي ربح مقابل حقيقي يمكن مقارنته بما بذلوه.

ويكمن الغباء الجيوسياسي هنا في عدم وجود تخطيط بعيد المدى ورؤية موضوعية للواقع، فكل الأطراف الخاسرة في سورية، لم تضع تقييما موضوعيا لما كان يجري وما يمكن أن يحصل، وضد من ستلعب في السعي لتحقيق مصالحها الاستراتيجية.

فالطرف الإيراني والروسي، وضعوا في البداية خططهم وحركتهم بناء على الاستهانة بالطرف المقابل، أي الدول الخليجية وتركيا، والثقة الغبية بقوة نظام بشار، وكذلك الاستهانة بقوة الرفض الشعبي للنظام الأسدي، ولم يحاولوا دراسة الواقع السوري والإقليمي ليجدوا أن وضع كل بيضهم في سلة بشار الأسد ونظامه، هو مخاطرة كبيرة ومكلفة، وبعد أن تصاعدت الأزمة لم يعد باستطاعتهم تعديل التوازنات ولا البحث عن مقاربات أضمن؛ فالتحرك الروسي الأخير في أستانة وغيرها من محافل دولية أتى متأخرا جدا.

أما الطرف الخليجي التركي، فمشكلته أيضا هي الاستهانة بقوة وإصرار الطرف المقابل، كذلك القراءة الخاطئة للموقف الغربي والأميركي وتوهم أن الإدارة الأميركية ستدعمهم بقوة وبشكل حاسم أمام روسيا وإيران؛ والمشكلة الأهم عند هذا الطرف، هي أن الدول الثلاثة المؤثرة السعودية وقطر وتركيا لم يؤسسوا تفاهما استراتيجيا فيما بينهم، ولا رؤية موحدة لسيناريوهات المستقبل، (كما رأينا ذلك بوضوح في مصر)، وكذلك استهانوا بالشارع السوري، واعتقدوا أن منح الدعم بالقطارة للمعارضة وتأخير سقوط النظام، سيعطيهم الفرصة لبناء بديل يناسب هواهم؛ لكن المشكلة أنهم مختلفون على هذا البديل: فالسعودية تريد بديلا من نمط مبارك أو السيسي، أي حاكم ذو مظهر عصري بربطة عنق، وتوجه ليبرالي منفتح، في شراكة مع طبقة إسلامية سياسية من التوجه السلفي المتشدد؛ بينما قطر وتركيا أرادوا بديلا من جنس نظام محمد مرسي في مصر، يحكمه الإخوان المسلمون، مع شكل خارجي حداثي؛ ولم يدرس الفريقان الواقع السوري بعمق ليعلما أن هذه النماذج التقليدية أعجز عن إدارة الدولة، وأعجز من أن تسقط نظاما مخابراتيا قويا مثل نظام بشار الأسد المدعوم بقوة من إيران وروسيا.

بالمقارنة النسبية بين الأطراف الخاسرة هنا، يتضح أن الطرف الإيراني الروسي كان نسبيا أكثر ذكاء من الطرف الخليجي التركي، فحتى العام 2013 امتلك الطرف الخليجي ورقة التحالف مع القوة الشعبية السورية، وتوجهيها بالاتجاه الصحيح، وهي الورقة الأقوى؛ لكن بدلا من ذلك فضلت هذه الحكومات الأساليب التقليدية في اللعب بالتحريض الطائفي والعرقي، من مبدأ فرق تسد، وبما أن السعودية وقطر على علاقات سيئة، فكان النزال بينهما من يسيطر، ففقد الجميع القدرة على الحركة المرنة والناجحة، واستطاعت إيران من خلال ذلك تثبيت قوة حليفها؛ طبعا من نافل القول أن هذا الانتصار الإيراني الجزئي، لأنها تنسق بشكل شبه كامل مع روسيا، لا يعني ضمانا لنصر نهائي، لأن فرسها الذي تستخدمه منهك أساسا وغير قادر على المتابعة.

خاتمة

قد يُقال، إذا لا توجد دولة ذكية في أي صراع عالمي. هذا غير صحيح، مقياس الذكاء بالمقارنة بين الدول هو مقياس نسبي يعتمد على نوعية المقارنة، فكثير من الدول الصاعدة اقتصاديا أثبتت ذكاء وحنكة سياسية، والدليل أنها تصعد، ومنهم تركيا حتى الآن، ومنهم الهند والباكستان الذين يتنازعان أزمة كبرى، لكن ذكاء السياستين ضمن مشكلة كشمير ضمنت لهما ألا يخسرا، لأنهما يعرفان أنهما لن ينتصرا.

يمكن للبعض نفي ما قيل هنا عن أهداف الدول والاستراتيجيات، أو تفسير الهزيمة او النصر، ضمن منهج نظرية المؤامرة، فكما يقول نظام الأسد الكيماوي: يكفي أنه ما زال موجودا أمام هذه المؤامرة الكونية الكبرى؛ أو قد يقول البعض يكفي معسكر الخليج وتركيا أنه يقف أمام المؤامرة الشيعية الغربية؛ وما إلى ذلك من كلام لا معنى له سوى الهروب من الواقع والأرقام والحقائق. لكن نقاش هذه المقولات غير ممكن لأنها تقوم على إيمان غيبي لا ينفع معه نقاش علمي موضوعي.

مقالات ذات صلة:

·        السياسة الأميركية ليست بحاجة إلى حسم الأزمة السورية” – دراسة تحليلية

·        بشار الأسد: سوريا هي خط الدفاع الأول عن إيران وروسيا” – مقال

 

رابط مختصر:

http://wp.me/P2RRDZ-Ai