Tue. Apr 16th, 2024

Alaa Alkhatib

علاء الخطيب

انتقاء الكرز والاختباء في الفقاعات

نظرة في المغالطات المنطقية للسلوك الإنساني

07/01/2018

علاء الدين الخطيب

كان الفلاح مستعجلا لجنيّ محصول الكرز من على شجر البستان، فقال لزوجته وهما يتجولان حول أشجار الكرز “انظري لقد نضج الكرز، سأدعو ابن عمي ليشتري المحصول”، صرخت زوجته محتجة “يا رجل ألا ترى، إنها بضع عشرات من حبات الكرز ناضجة حمراء، الباقي ما زال أخضرا، اصبر أسبوعين وسننال ثمنا جيدا للمحصول”، بالواقع كانت الزوجة محقة، يوجد فقط عشرات من حبات الكرز الناضجة، وعلى بضعة أشجار من جهة شروق الشمس. لكن الفلاح أسكت زوجته غاضبا “أنت لا تحبين الخير لي، وتقلبين كل جيد إلى سيء، سأنادي ابن عمي التاجر الغني وسترين”. أتى ابن عمه ونظر حوله ثم خاطب الفلاح “يا ابن العم، إن محصولك لم ينضج بعد، وأنا لن أدفع لك سوى مبلغا صغيرا مقابل هذ المحصول”، صمت الفلاح لدقيقة ثم قال بصوت حزين “نعم معك حق، إن هي إلا بضع حبات ناضجة، لعن الله الشيطان لقد أرانيها كلها ناضجة، هلا ساعدتني يا ابن العم، أريد سعرا معقولا للمحصول، وأرجوك لا تخبر زوجتي بحديثنا فقد قالت لي الحقيقة لكني نهرتها” ضحك ابن عمه، وقال له “لأنك قريبي سأتصل بأحد التجار الصغار، وسأقنعه أن يشتري محصولك بمبلغ جيد، لكني أريد نصف المرابح، ولن أخبر زوجتك، لكن لا تسمح لها بالقدوم هنا ساعة أتي مع التاجر”، وهذا ما كان، أتى ابن العم مع تاجر جديد على المهنة، وأخذه بجولة سريعة في البستان، شاغله بالحديث والنظر لتراب الأرض البني المحمر، وكان يوقفه في الزاوية المناسبة ليرى حبات الكرز الناضجة، وبالنهاية عقدا صفقة رابحة أرضت الفلاح على مضض، وأخذ ابن العم حصته من المرابح.

قصة افتراضية توضح المقصود بمصطلح “انتقاء الكرز Cherry picking” الذي يشير إلى مغالطة الأدلة الناقصة أو قمع الأدلة، والمقصود في هذا المثال أن الرؤية الاجتزائية للصورة أو الحقيقة الكلية توصل “صاحب المصلحة” إلى نتيجة توافق مصلحته، هي نتيجة خاطئة رغم أنها مبدئيا قائمة على دليل؛ فطمع الفلاح بالمال السريع استطاع إخفاء الحقيقة الكلية عن عيونه، بل وحرضه أن يكذِّب أقرب الناس إليه زوجته، لكنه انصاع للحقيقة يوم أتاه من هو أقوى منه غنى ومنزلة؛ أما التاجر المستجد عديم الخبرة، فقد كان من السهل صرف عيونه وعقله عن رؤية الحقيقة من قبل التاجر الكبير الخبير، الذي لم يكذب ويقول أن كل الكرز ناضج، بل قال جزءا من الحقيقة.

هذا السلوك المنفعي الانتقائي، كحالة الفلاح الذي أراد أن يرضي طمعه واستعجاله، أو السلوك الغبي الساذج، كحالة التاجر المستجد عديم الخبرة، هو سلوك منتشر بين الناس كأفراد وجماعات بكثرة. سلوك يعتمد على تبني منهجية انتقائية في قراءة الواقع، بتجزيئه إلى قطع صغيرة ثم انتقاء ما يناسب المصلحة منها. أحيانا يكون هذا السلوك سلوكا غير واعٍ، بمعنى أن الشخص فعلا، ولسبب ما لا يرى كامل الحقيقة مثل الفلاح، أو قد يكون واعيا ومدركا للحقيقة، لكنه يريد إيهام الأخرين بعكس الحقيقة، كحالة التاجر الغني الخبير. من أشهر وأوضح الأمثلة على منهجية انتقاء الكرز هو منهج رجال الدين عموما، في أي دين أو مذهب، فهم يمارسون عملية انتقائية مستمرة في قراءة وتفسير الكتب والنصوص والتاريخ بما يناسب مصلحتهم كطبقة كهنوتية ذات امتيازات سلطوية في علاقة معقدة مع السلطة السياسية والاقتصادية.

يمكن أيضا خداع الحقيقة بسلوك مشابه يّسمى “انحياز التأكيد Confirmation bias“، وهو ميّل الإنسان للانحياز للمعلومات والأحداث والأدلة التي يمكن إن تم وضعها ضمن سياق معين أن تؤدي لنتيجة يريد الإنسان الوصول لها لأسباب مختلفة. غالبا ما يكون الإنسان، عند الكلام عن عموم الناس، مدفوعا بعواطفه وغرائزه أكثر من موقفه العقلاني؛ لكنها تكون عملية ممنهجة عندما يكون الكلام عن صناع الرأي العام من مؤسسات إعلامية وطبقات سلطوية سياسية واقتصادية.

هذا المنهج يفسر الكثير من التصرفات والمشاكل على المستوى الفردي بين الناس، بين الأزواج والأقارب والأصدقاء والشركاء، وهو أيضا يفسر الكثير من المفاهيم الخاطئة المنتشرة بين الجموع البشرية في كل مكان في العالم.

فمثلا، في حالة السوريين، غالبية منهم تؤمن بالتفسير الطائفي والديني للحرب فوق الأرض السورية، وكلهم ينتقون ما يناسب تفسيرهم من الواقع والتاريخ، حتى لو كانت تفسيراتهم متناقضة، فمجموعة تراها شرانية وحقد العلوية والشيعة، ومجموعة تراها شرانية وتخلف السنة، وهم كلهم يتبعون نفس النهج في الانحياز لما يؤكد موقفهم الغريزي الغير عقلاني. كذلك فانحياز التأكيد يوضح أحد أسس وأسباب انتشار نظرية المؤامرة، التي تقوم على قراءة انتقائية للواقع والتاريخ بما يناسب النتيجة المعدة مسبقا، لكن هذا حديث آخر ومقالات أوسع.

أكثر من استفاد من فهم سلوكيات المغالطات المنطقية هي شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث على شبكة الانترنت. فهذه البرامج الخدمية تتضمن خوارزميات وبرامج تجمع معلومات عن توجهات ومزاجيات وتفضيلات المستخدم، من خلال كل نقرة يقوم بها، ماذا يقرأ ويشاهد أكثر، أين يضع إشارات الإعجاب والمشاركة، أين يضع إشارات عدم الإعجاب، وما إلى ذلك، فتقوم هذه البرامج بتقديم ما يناسب أهواء هذا المستخدم، وهي خوارزميات تسمى “مرشّحات الفقاعة Filter bubble“. فلا يتساءل الكثيرون، لماذا أرى على صفحتي اقتراحات من قبل الفيسبوك مثلا تتضمن منشورات أحب قرائتها أكثر من غيرها! ليس المقصود أن الفيسبوك أو غيره يظهر فقط ما يحب المستخدم، لكنه يحاول أن يزيد نسبة ما يفضله هذا المستخدم. مثلا هذا مستخدم سوري، فهو سيفضل منشورات عربية ثم سورية، وهو يهتم بقراءة أخبار مدينة حمص، وأيضا يشاهد الكثير من فيديوهات تتعلق بالنصرة وداعش أو بالنظام السوري وحزب الله، فبرنامج التشابك الاجتماعي أو محرك البحث يحاول تصغير الفقاعة المحيطة بالمستخدم، بما يحقق رغبات المستخدم، وهي بالنهاية تصب في مبدأ “إرضاء الزبون”. لذلك نجد كثيرا من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي وقد أصبحوا يعيشون ضمنها بعواطفهم وتفكيرهم وغضبهم ورضاهم وسعادتهم وحزنهم، لأنهم وجدوا فقاعة افتراضية، انتقتها لهم خوارزمية البرنامج الخدمي، سواء كان تفاعلهم معها حبا ومتعة أو كان كرها وغضبا.

هل نعيش ضمن فقاعة صممها أحدهم لنا؟ بالواقع الجواب هو لا. الكثيرون يعيشون ضمن فقاعة هم صمموها لا إراديا بمواصفاتها كلها، ولم يصنعها أحد لهم، فبين أكثر من ملياري مستخدم للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لا يوجد عشرين مليون فرد يجلسون في غرفة مظلمة في قبو سري يرسمون الفقاعات، هناك فقط نظام تطور ما بين التقنيات والعلم وما بين قانون السوق والعرض والطلب ولا-أخلاقيات الاستهلاك، فبدأ هذا النظام بخلق فقاعات حسب الطلب.

07/01/2018

رابط مختصر:

http://wp.me/P2RRDZ-CP