Fri. Apr 19th, 2024

Alaa Alkhatib

علاء الخطيب

ماذا يريد ترامب من القدس

08/12/2017

علاء الدين الخطيب

قبيل الانتخابات الأميركية لم يترك السيد دونالد ترامب ملهم النازية المعاصر أحدا يعتب عليه، فأطلق تصريحاته المهينة والمستفزة باتجاه كل دول وحكومات العالم، بدأ بسكان بلده الولايات المتحدة الأميركية فأعاد الهمة للتيارات البيضاء العنصرية، وحاصر المواطنين اللاتينيين في مستواهم الأدنى، وأعلن أنه سيقِ بلده شرور المكسيكيين بجدار “سلامة” أميركي. ثم أطلق سهامه النارية تجاه الصين التي تنمو كوحش يريد افتراس الازدهار الأميركي، وهدد الشركات الأميركية بالويل والثبور لأنها تستثمر في الصين وغيرها. ولم يداري حتى حلفاءه الغربيين، فأوروبا يجب أن تدفع مالا أكثر كي تحميها العسكرية الأميركية. وطبعا كان للإسلام والمسلمين بكل شيعهم ومذاهبهم حصص كبيرة من تغريداته المعربدة ضد الإسلام والإرهاب. لكن للحقيقة والتاريخ لم تخرج من فمه ولا حسابات “تغريداته” كلمة ضد صديقه الصدوق السيد فلاديمير بوتين قائد الفاشية في أوراسيا.

الرجل معروف عنه الحزم والشجاعة، ففي فيديو مشهور نرى ترامب ببدلته الأنيقة وربطة عنقه، ينتفض غضبا ضد أحد المترسمين مثله بلباس الأغنياء الأميركيين حول حلبة مصارعة حرة أميركية، ويهجم بمئة وسبعة كيلوغرامات مما هو محشور تحت جلده من وزن على الأميركي الآخر، ويدميه ضربا، ثم يحلق له شعره على حلبة المصارعة الحرة. (إضافة ضمن السياق، الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الوحيدة في العالم التي تُعتبر بها المصارعة الحرة لعبة وطنية شعبية).

بعد وصوله إلى سدة رئاسة البيت الأبيض، القصر الذي يحكم أقوى وأغنى دولة عرفها التاريخ البشري، بدأت ضرورات المصالح والسياسة تروّض ذلك الثور الهائج. ففهم أن الصين رغم أنها أكبر منافس يهدد السيطرة الأميركية على السوق العالمي، إلا أنها أصبحت في موقع يتيح لها أن تهدم القلعة الاقتصادية العالمية على رؤوس الجميع بمن فيهم الأميركيون والصينيون، فالأسلم له ألا يدخل في تحدٍ مباشر معها. وبالنسبة لتاجر عقارات مثل ترامب فالتغيير ليس مشكلة، فسارع لعقد “صداقة” مع الرئيس الصيني، وإرسال رسالات الغزل للشريك الدولي الكبير. ومع الغربيين فهم ترامب أنهم ربما يكونون أضعف من بلده عسكريا واقتصاديا، لكنهم أهم لاستمراريته في الحياة من الصين، فتناسى مطالبه بمساهمات أوروبية أكبر في حلف الناتو، ووضع أمله في تلاميذه الأوروبيين الصاعدين، أي الأحزاب اليمينية النازية، ومما زاد في ثقته بهم وصاية حليفه القيصر الروسي عليهم، فهؤلاء الداعشيون بنكهة غربية سيسوقون أوروبا إلى عتبات نظام الفوضى الأميركي الجديد.

خلال عمليات الترويض المحمومة في البيت الأبيض، لم يستطع ترامب نسيان تلك المصارعة الحرة، وأراد بعض التغيير، فأعلن انسحاب بلاده من اتفاقيات باريس حول حماية البيئة، وأعلن انسحابه من مفاوضات التجارة في منطقة المحيط الهادئ، ليقدم للصين أكبر هدية عن غير قصد، وأراد الانسحاب من اتفاقياته مع شركائه الأوربيين، لكن هنا صعد القلم الأحمر أمامه “نعلم أنك مجنون، لكن لكل جنون حدود”. فانطلق جامحا يزور أصدقائه النازيين الجدد في حكومات أوروبا الشرقية.

منذ أسابيع أراد ملاعبة غريمه اللدود رئيس كوريا الشمالية، فأنزل صواعق الاستفزاز على رأس ذلك الطاغية الذي يحكم بالحديد والنار 25 مليون إنسان، وهدد الزعيم البرتقالي ترامب بمحو تلك البلد مع أهلها من الوجود، وانتظر، ثم انتظر، ثم انتظر أن يستجيب المنتفخ الأوداج كيم جونغ آن بحركة عسكرية انتقاما لكرامته، لكن على ما يبدو أن روسيا والصين شكمتا ذاك المراهق الكوري الشمالي، وبنفس الوقت قام جنرالات البنتاغون الأميركي بشرح مبادئ العمل العسكري لترامب، ففهم أن استفزاز كوريا الشمالية هو حماقة، لن تؤدي سوى لأن تكون الولايات المتحدة ثاني من يستخدم السلاح النووي بعد أن كانت أول من فعل.

ثم أراد هذا الأرعن الأورانجي الاطمئنان على حلفائه في الخليج العربي، فشرَّفهم بزيارة امبراطورية، وتصاعدت الأهازيج العربية مع القهوة المرة، وداعبت ريح الصحراء النفطية ثياب ميلانيا وإيفانا، فمالت مع طيات فساتينهما سيوف أهل النشامى. وقفل عائدا ليبقى صهره المدلل يطير كل حين وحين إلى صديق الغفلة الأمير الأقوى في العائلة السعودية محمد بن سلمان، ثم تتفجر المفاجآت الخليجية مثل أفلام الأكشن الأميركية: حرب إعلامية سياسية اقتصادية ضد سكان قصر الدوحة، سجن كبار الأمراء السعوديين، احتجاز رئيس حكومة دولة مستقلة هو سعد الحريري، صواريخ حوثية تقترب من الرياض.

هذه المرة لم يكبحه أحد، ولم ينصحه أحد، فليس في هذه المنطقة ما يستحق الخوف والحذر. كل ما في الأمر أن الرئيس الفرنسي اضطر للسفر شخصيا إلى السعودية، لضبط الشظايا المتناثرة، والعودة بالحريري سليما معافى. لكن كل هذه الإثارة لم تكن كافية على ما يبدو لهذا السمسار المغامر، فأعلن قنبلته الموقوتة “القدس هي عاصمة إسرائيل حسب قرار الكونغرس الأميركي في العام 1995، والسفارة الأميركية يجب أن تنتقل إلى هناك”.

ولا يمكن للإنسان أن يتخيل حال أصدقاء هذا الوعل الأميركي أو أعدائه، في عواصم الشرق الأوسط. فمنذ أيام كان كل منهم يستعرض منكبيه سعيدا بمباركات صديقه الأميركي أو لعناته، فحسب العرف السائد شعبيا وتقليديا في هذه المنطقة التي لا تدخلها الخطوط الحمراء، إلا حول إسرائيل، من تسانده الولايات المتحدة الأميركية يخيف الجميع، ومن تلعنه هو بطل الأبطال لأنه يرعب الأميركيين. فأتى هذا المراهق السبعيني ليضعهم أمام الامتحان: “ها أنا ذا، أنقل سفارتي للقدس، فأروني ماذا أنتم فاعلون؟”

فلا أصدقاءه يجرؤون أن يدينوا، سواء كانوا أمراء وملوك سعر يختهم 500 مليون دولار، أو 300 مليون دولار، ولا إن كانوا يرأسون أكبر دولة عربية مثل مصر. ولا أعداؤه الحاكمون بشعار محاربته وممانعة حليفه الإسرائيلي، يجرؤون أن يشهروا أكثر من كلامهم ووعيدهم، لا في طهران ولا دمشق وطبعا ولا في الضاحية الجنوبية من بيروت.

أما صديق الجميع ذو الابتسامة الغبية ترامب، فهو يحتفل حاليا بتمرير تعديلات قوانين الضرائب الجديدة في الولايات المتحدة الأميركية، التي ستحول كبرى الشركات الأميركية إلى صفه، والتي سترد الجميل له بأن تزيد من عماء الشارع الأميركي من الطبقة المتوسطة والفقيرة، الخاسرون الوحيدون من النظام الضريبي الجديد، فهذا أكبر تغيير اقتصادي داخل الولايات المتحدة منذ عقود طويلة.

يا ترى هل نحن هنا أمام رجل غبي مجنون، أم أمام داهية من الدواهي المصابين بمرض العظمة، والمدعوم من قبل الرايخ الأميركي لقلب وجه العالم والنظام الأميركي؟ أم أن داعميه من بعض المسيحيين يريدون تعجيل عودة المسيح، الذي لن يعود ما لم تكن “أورشاليم” عاصمة لإسرائيل؟ ما هو مؤكد موضوعيا أن ترامب يسير ببلاده والعالم نحو كوارث لا ضمان بها لانتصار أو نجاة الولايات المتحدة الأميركية، خاصة مع وجود قيصر ماكر متربص في موسكو، وصعود مجنون ليمين عنصري أوروبي، ووجود طغاة دمويين ما بين ضفاف المتوسط ووسط آسيا، يتزعمهم حاليا بشار الأسد، واضطرام نيران جنون التعصب الإسلامي السني والشيعي بوقود نفطي محلي على ضفتي الخليج العربي. ربما يكون الأصح أنه كل ذلك، زعيم أخرق مقامر ومتدين متعصب وعنصري قميء، تدعمه جماعة سياسية راديكالية ما كان لها أن تظهر لولا الفوضى التي سببها أصحاب القرار الأميركي بعد انهيار المعسكر السوفياتي، ببساطة الموتورون الذين لا يظهرون إلا في زمن الفوضى.

نقل السفارة الأميركية للقدس، رغم ألمه النفسي والمعنوي الكبير على فقراء أرض الأنبياء الحزينة المكلومة، إلا أنه تعبير عن تدشين سياسة أقلية أميركية صعدت ببطء إلى السلطة في واشنطن منذ بداية الألفية حاملة معها مشروع القرن الأميركي الجديد. لكنه مشروع ربما يبتدأ ببلادهم حرقا قبل أن يدمر العالم، لأن مشروعهم ليس نتيجة قراءات وبحوث ودراسات مصالح، بل هو تفجير لخطايا القرن الماضي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لليوم، أنه تفجير لضوابط الحرب الباردة، ومراكز التحكم بحرارة الأزمات الدولية. فلم تنقل أي دولة سفارتها للقدس، ليس من باب الالتزام الأخلاقي، بل من باب إدارة الأزمة. ولم يتدخل أحد بقوة لإنهاء المأساة السورية، ليس لمؤامرة كونية، سواء حسب النظام أو معارضيه، بل متابعة لسياسات إدارة الأزمة. ولطالما اهتز العالم من حول شطآن المتوسط، وها هي أوروبا تتمايل تحت رايات النازية الجديدة، وجنوب وشرق المتوسط يتشظى دما وعنفا ولاجئين.  

 

08/12/2017

 

لمشاهدة فيديو مصارعة ترامب اضغط هنا.

 

رابط مختصر:

http://wp.me/P2RRDZ-BT