Thu. Mar 28th, 2024

Alaa Alkhatib

علاء الخطيب

الخليج العربي، أزمات حكام أم قوانين سوق

07/03/2014

علاء الدين الخطيب

لشخصية السياسي دور مهم في الحركة الجيوسياسية، لكن هذا الدور أخذ بالاضمحلال منذ أواسط القرن العشرين بسرعة هائلة، وخاصة بعد سقوط السوفييت وانتقال العالم لما سموه “النظام العالمي الجديد” الذي ليس بحثنا اليوم، لكن أحد نتائجه الأساسية أن العالم يسير فعلا وفق بنية مؤسساتية رأسمالية متصارعة فيما بينها لكن ضمن حدود لا تسمح لهذه المؤسسات أن تنهار، فلا يمكن لهذا النظام أن يسمح للأزمة أن تصل لمرحلة الحرب المباشرة بين الأقطاب الكبرى مثل الحرب العالمية الثانية. المنهج التقاتلي انتقل منذ عقدين وبشكل نهائي إلى ما يسمى “حروب الوكالة Proxy War“. لذلك سنتناول تصعيد التوتر بين دول الخليج العربي من منظور جيوسياسي موضوعي لأهم منطقة استراتيجية بالعالم، فلا يمكننا الركون للتفسيرات التي تُعلق الأزمات بمزاجيات زعماء القوم.

لعوائل الخليج الحاكمة تاريخ طويل من النزاعات والمصالحات ومشحون بالعواطف. لكن يمكن التركيز على أن علاقات قطر بالسعودية لم تعرف الهناء منذ 1992 مع بدء المناوشات الحدودية، ثم أتى انقلاب 1995 ليرسخ النفور السعودي من حكام قطر. وكان قرار قطر باستضافة القاعدة العسكرية الأمريكية الثابتة في الخليج بعد رفض السعودية لذلك أثره الكبير في فقدان الثقة. ليس لأن السعودية فوتت فرصة ربح مادي أو ورقة مراضاة للولايات المتحدة، بل لأن هذه القاعدة عنتْ لقطر التخلص من هاجس أي هجوم خارجي ولم تعد السعودية بحجمها الكبير نسبيا ضرورة عسكرية بالنسبة لقطر. بالإضافة لذلك فإن التوتر المستمر بين قطر والبحرين بسبب خلافاتهم على الحدود المائية التي تختزن الكثير من الغاز الطبيعي زاد من حدة حساسية السعودية تجاه قطر، وطبعا لا ننسى خلافات الحدود القطرية السعودية الإماراتية. countries around

مع دخول القرن 21 توافق السوق العالمي على بقاء قطر محمية أمريكيا كأكبر منتج للغاز الطبيعي السائل بالعالم وكمقر عسكري استراتيجي لأساطيل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وصولا للمحيط الهندي. هذه الحالة من الحماية استغلتها قطر بسرعة وقوة فأشهرت سلاح المال والإعلام في إثبات وجودها كدولة فاعلة بالمنطقة فبدأت بترسيخ علاقات متينة مع غالبية الدول العربية عدا مصر، ومع إسرائيل وإيران وتركيا. بنفس الوقت وبعد حرب العراق الثانية زاد إحساس السعودية بالخطر، وضعف ثقة الولايات المتحدة بها. فقد كان دورها بتلك الحرب أقل من حجمها الكبير في تلك المنطقة، ببساطة للمرة الثانية بعد حرب 1991 ترسخ أن حجم السعودية الضخم لا يعطيها قوة أكثر من دول الخليج العربي الأصغر بكثير. بعكس قطر التي استطاعت من خلال الجزيرة وعلاقاتها مع الجميع أن تحظى بدور محوري. فتوالت اقتحامات قطر لما كان يعتبر مجالا سعوديا للسيطرة في لبنان بعد حرب 2006 وفي سوريا من خلال العلاقة الحميمة بين حاكمي البلدين حمد وبشار، أضف لذلك علاقاتها المتحسنة باطراد مع إسرائيل وإيران وتركيا. وبما أن هذا البلد وبحجمه الصغير سكانيا وعسكريا لا يمكن له الاستمرار دون الحماية الأمريكية فهذا الصعود القطري كان حتما برضى أمريكي تام.

يفسر الكثيرون سعي قطر بحجمها الصغير لتأسيس امبراطورية من النفوذ السياسي من خلال الإعلام والمال بأنه بسبب شخصية الأمير ووزير خارجيته الحمدين وذكائهما أو مكرهما (حسب نوايا المتكلم). هذا التفسير بالواقع الجيوسياسي العالمي أضعف من أن يفسر كل هذا التمدد في خضم صراع عالمي مستعر بين القوى الكبرى على منطقة الشرق الأوسط، نعم لشخصية الرجلين ضرورتها وأهميتها لكنها لا تكفي لدولة يبلغ ناتجها المحلي الأجمالي أقل من ثلث الناتج الإجمالي للسعودية وأقل من نصفه بإيران وأقل من إسرائيل والإمارات ومصر. GDPs المعادلة الأساسية التي استطاعت من خلالها قطر الصعود برضى الولايات المتحدة، أن الأخيرة بحاجة لقاعدة عسكرية كبرى بالمنطقة، ولا يمكن لها إنشاؤها بالسعودية بسبب كثرة المشاكل الداخلية بهذا البلد وضمن عائلته الحاكمة، ولا بالكويت بوضعها قرب العراق ولا بالإمارات التي رغم استقرارها إلا أنها بالنهاية توافق سبعة من الحكام. أما قطر فعدد سكانها القليل واستقرار العائلة الحاكمة مع بقية العائلات وبالإضافة لغناها بالغاز الطبيعي يحتم جيوسياسيا وعسكريا أن تكون هي مقر القاعدة الأمريكية الأمثل.

من ناحية ثانية، من السهولة بمكان ملاحظة الحرب الإعلامية بين السعودية وقطر من خلال مناوشات الجزيرة والعربية منذ عقد تقريبا. والأهم أن كلا النظامين أراد بحكم الواقع أن يتحالف مع الإسلام السياسي. ولما كانت العائلة السعودية ناشئة تاريخيا على حلف مقدس وغريب بين العائلة وبين شيوخ المذهب الوهابي السلفي فقد توجهت قطر للمنافس الأقسى لهذه المجموعة الإسلامية وهو الإخوان المسلمون. فكان الانقلاب الجذري في الجزيرة بعد أن أسست نفسها كأكبر محطة عربية إخبارية مشاهدة بقدوم مديرها وضاح خنفر المعروف باصطفافاته الإخوانية بالإضافة طبعا لتنمية علاقات قطر والجزيرة (بالواقع يصعب الفصل بين الاثنين) مع حماس الإخوانية الهوى وبمنح الشيخ يوسف القرضاوي حضورا إسلاميا أساسيا. وضمن هذا المنظور نفسه يمكن أن نفهم علاقات قطر مع حزب الله اللبناني الحليف لإيران، فهو أيضا مصارع شرس ضد المنهج السلفي الوهابي بحكم تبعيته للنظام الإيراني وهو المصارع الأقوى للنظام السعودي. بنفس هذه الفترة كان أردوغان الأقرب للفكر الإخواني منه للفكر السلفي الوهابي قد بدأ يفرض وجوده الشعبي في المنطقة وينافس السعودية على قيادة المنطقة.

مع قدوم الربيع العربي عام 2011. بدأت القشة التي ستقسم ظهر البعير بالهبوط السريع على هذا الظهر. فالحكم السعودي الذي بذل الكثير ليضمن مصر حسني مبارك بصفه خلال 30 سنة من حكم الأخير، ومع ما يتجاوز ال12 مليار دولار استثمارات سعودية وحوالي 5 مليارات استثمارات إماراتية في مصر، وجد النظام السعودي نفسه أمام مأزق وصول الإخوان للحكم بمصر بكل ما يحملوه تاريخيا من عداء له. وهنا كان الدور القطري حاسما بدفع الإخوان المصريين للأمام بعد ترددهم في الاقتراب من قمة السلطة المصرية. وبدأت الحرب بين الحكومتين على أرض مصر تشتد إلى أن استطاع عبد الفتاح السيسي استثمار الغضب الشعبي المصري من حكم الإخوان ليثبت نفسه كحاكم أعلى لمصر ويقطع الطريق على كل مشاريع قطر من خلال مصر. هنا بدأت المعركة تظهر للسطح أكثر فأكثر، فقطع السيسي علاقاته الديبلوماسية مع تركيا أردوغان الحليف الأهم للحكومة القطرية.

في بداية 2013 بلغ التبرم السعودي مداه من سياسة قطر في سوريا التي انصبت على دعم تيار الإخوان ضمن المعارضة السورية على حساب حلفاء السعودية. وهنا تدخل الراعي الأمريكي لطمأنة الحكومة السعودية فتم تأسيس الائتلاف الوطني وفق مواصفات سعودية خالصة لإيجاد نوع من التوازن أمام فقدان السعودية لتأثيرها في مصر أيام حكم محمد مرسي. وهذا ما شعره السوريون بوضوح من صعود عاصف لما يسمى الجيش الإسلامي ثم الجبهة الإسلامية وداعش أمام فصائل لواء التوحيد والنصرة المحسوبة أكثر على قطر.

في هذه المرحلة ومع تثبيت بندر بن سلطان كرجل أول بلا منازع في السعودية حقق السعوديون اختراقهم الأهم ضمن صنم السياسة السعودية التقليدي، لقد تعلموا المناورة من حكام قطر. فقضى الأمير بندر بعام 2013 عدة أسابيع  في روسيا من خلال على الأقل رحلتين معلنتين (أديتا كنتيجة جانبية لعقد سلاح بين مصر وروسيا بقيمة 5 بلايين دولار).

أتت المفاجأة الإعلامية، لكنها كانت النتيجة المنطقية لتطورات الصراع، بإعلان الاتفاق الأمريكي الإيراني على أسس التفاوض حول الملف النووي الإيراني. الاتفاق الذي شكل النقطة الوحيدة التي استخدم بها أوباما سلطته الرئاسية لمنع أي “مناغشات” من الجمهوريين حولها. طبعا يدرك الحكام السعوديون أن هذا الاتفاق لا يمكن أن يلغي “عقد الحماية” الأمريكية. لكنه بنفس الوقت يقلل من أهميتهم الاستراتيجية بالمنطقة خصوصا وأن قطر توجهت لتنعيم مصافحاتها مع النظام الإيراني.

توالت تحديات قطر للسعودية من خلال ما يفترض الحليفان الأضعف وهما الإمارات العربية المتحدة والبحرين. وليس هجوم القرضاوي المنظم على سياسة الإمارات المنافس الحقيقي لقطر بالمنظور الإقتصادي والتجاري مجرد اجتهادات “شيخ غاضب لله”، فشيوخ هذه المنطقة لا ينطقون عن الهوى بل عن أوامر القصور حتما. لقد حاولت الإمارات دائما التزام سياسة الحياد الإيجابي حتى بما يتعلق بجزرها المحتلة إيرانيا، وبنفس الوقت تحظى بثقة ورضا الحكم السعودي فحتى تطرية علاقاتها مع إيران تعتبر بالنسبة للسعودية ضرورة استراتيجية تشكل نفقا خلفيا للتواصل مع الحكم الإيراني. التوافق السعودي الإماراتي قائم على قبول الإمارات كبوابة حداثية عصرية للسعودية المحكومة بأمر الواقع الوهابي المتعصب.

بعد التفاهمات الروسية السعودية حول سوريا من خلال مفاوضات بندر بن سلطان مع الحكومة الروسية، تم عقد مؤتمر جنيف ودفع جبهة ما يسمى “الديمقراطيين السوريين” بقيادة ميشيل كيلو للواجهة ووفق التركيبة المفضلة سعوديا “واجهة ليبرالية تتشارك مع تيار إسلامي سلفي محافظ”. لكن تورط روسيا بمشكلة اوكرانيا أتى بمزيد من القوة للموقف السعودي للتسريع بعقد التسويات بناء على جنيف2. وهنا ظهر أيضا خطر حلفاء قطر بالمعارضة والفصائل المسلحة على الحركة السعودية ولعل ذلك تجلى بالرسائل المباشرة التي بدأتها الحكومة التركية بعدم ترحيبها بوجود الائتلاف على أرضها بعد أن زادت توتراتها مع السعودية ومصر وزاد تقربها من أثيوبيا.

لقد أراد السعوديون بالخريف الماضي بذل محاولة أخرى لكبح جماح “الامبراطورية القطرية” في المنطقة، لكنهم أخفقوا في ذلك لسبب أساسي، بالتأكيد ليس السبب “اعتداد الأمير بنفسه” ولا “غضب الملك” كما قال عبد الباري عطوان، بل السبب هو أن الإدارة الأمريكية المتحكمة باستقرار كلا النظامين لم تجد ما يكفي من أسباب لمصالحة جذرية بين عوائل الخليج العربي خصوصا بعد اختراقاتها مع الحكم الإيراني وحشرها روسيا مرحليا في أزمة أوكرانيا الخطيرة.

إن لم تنجح روسيا وأوروبة الغربية بأخذ أزمة أوكرانيا باتجاه الاستقرار سريعا متجاوزين الإدارة الأمريكية، فإن خلافات الخليج العربي البينية مرشحة للتفاقم أكثر وأكثر وظهور تحالفات مفاجئة بالمنطقة تلعب بها إيران وتركيا دورا كبيرا ومرجحا. أما سوريا فلا يمكن ضمن هذه المعمعة من غبار الصراعات لعاقل أن يصدق أن مصالح الحكومات المتصارعة والمتصالحة بسرعة البرق ستتراجع وراء أولية مصالح الشعب السوري.

 

07/03/2014