Thu. Mar 28th, 2024

Alaa Alkhatib

علاء الخطيب

سوريا، بضاعة طوائف وممانعة وثورة

06/12/2013

علاء الدين الخطيب

لطالما حقّ للسوريين أن يفخروا بأنهم من أكثر بلدان العالم تنوعا دينيا وعرقيا كأصل تاريخي وليس كحدث طاريء نتيجة نمو الثروة. لكن يبدو أن هذا التنوع تحوّل لنقمة قاتلة لهذا البلد الصغير، فقد وجد فيه كل حكام العالم ما يناسبهم من مواد أولية يبنون عليها تجارتهم. الصراع العالمي المحتدم على سورية يعتبر حالة فريدة من حيث عدد المتورطين به من حكومات دولية تمثل كل تناقضات السوق العالمي من الصين لروسيا لإيران للسعودية لقطر لتركيا لإسرائيل لفرنسا لبريطانية وصولا لأمريكا. ولكل فريق أو حلف منهم أسلوبه بالتدخل ومنهجيته وكلهم يحتاجون لأغطية “أخلاقية” تبرر حركتهم أمام الرأي العام ببلادهم. فبالإضافة لسبب الصراع الأساسي وهو الموقع الجيوسياسي في سورية، قدم تنوع الطيف الإنساني السوري ما يحتاجه كل فريق. فمنهم من يريد عباءة الإسلام، أو عباءة السنة، أو عباءة الشيعة، أو عباءة المسيحية، أو عباءة  العروبة، أو عباءة الكوردية، أو عباءة التركمانية، أو عباءة الديمقراطية، أو عباءة الممانعة، أو عباءة الإنسانية. وهنا تحركت الأموال بالملايين واستعرت وسائل الإعلام شراهة لسوق واعد بالأخبار المثيرة “الأكشن” التي ستجلب القراء والمشاهدين وترضي الممولين.

لقد تعرض السوريون طوال السنين الثلاث الماضية لمآسي فظيعة في الأرواح والدماء والحجر والحديد أيضا، لكنها تبقى للأسف ضمن معدل ما يسمى “عادي” مقارنة بالمذابح التي شهدتها الإنسانية عبر التاريخ والجغرافيا. ولكن ما لم يتعرض له أي شعب آخر بالعالم وعبر التاريخ هو هذه الحرب الإعلامية المدعومة بالأفعال الجرائمية لتحويل حدود الألوان السورية إلى فوالق عامودية تقسم الشعب السوري إلى طوائف وعشائر وعرقيات وجماعات. وقد خدمت الصدفة التاريخية بأن يكون رئيس سورية من الطائفة العلوية هذه الحرب الإعلامية المغرقة في الانحطاط الأخلاقي والديني.

fear

قد نتفهم قانون الواقع الحاكم لصراع الحكومات بالعالم على القوة والمال، فالحكومة الإيرانية تريد تبوء القيادة في المنطقة باسم الاسلام الشيعي حسب مقاسات حكامها، وتصارعها على ذلك الحكومة السعودية لتزعم العالم الإسلامي من خلال بيع مذهب سنيّ هجين بين البداوة الصحراوية ورفاهيات فضائيات المنوعات التجارية، وتدخلت حكومة قطر لتنجو من ابتلاع الجارين لها باسم الإسلام السني الإخواني المهجّن بين انتهازية ميكافيلية وقيَم عثمانية وهنا تلاقت قطر مع حكام تركيا الهاربين من التبعية لأوروبة والغرب وبنفس الوقت الطامعون بمبادلة المياه بالنفط والاستقرار بقتل الحلم الكوردي. وفوق صراع هذه الأطراف حول ضفاف المال والقوة يجلس اللاعبون الكبار في حكومات روسيا والصين أمام حكومات الغرب يديرون أولئك اللاعبين الصغار من تحت الطاولة ويرمون على الطاولة أوراق الديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات.

لكن المفجع في هذا الصراع هو تهافت الطبقة السورية التي كنّا نظنها طبقة المثقفين العلميين الحاملين لهمِّ الشارع على بضائع السوق العالمي في هذا الصراع القذر. وتراوحت درجات التمويه والذكاء في تمرير “الدعايات الترويجية” لبضائع السوق حسب اسم صاحب القلم والصوت. فإسم عملاق كصادق جلال العظم يتوّه قارئه بين قفزات الفلسفة ليصل به لفكرة واحدة أن السبب والحل هو الطائفة العلوية بصعودها ووجوب إعادة تنزيلها. بينما ينهار عقل مبدع مثل أدونيس أمام حقيقة أن تطرف علمانيته لا يَفضِل تطرف الشيخ العرعور. ويهرب الكثيرون ممن ظنوا وجعلونا نظن أنهم علمانيون لأحضان النظام خوفا من ذقن طويلة وشارب محفوف متناسين أنهم وهؤلاء خريجون سيئون لمدرسة النظام السوري.

الطبقة الثانية الأشد هولا على سورية كانت صعود نجوم الصدفة الإعلاميين ممن “صرعوا” السوريين من الشهور الأولى للثورة بظهوراتهم المتكررة على الإعلام العربي وبإعادة نفس الكلمات والأفكار وتغييرها تدريجيا في مسارات شديدة السواد الطائفي أو السواد التوهيمي حول “المجتمع الدولي”، مثل كمال اللبواني، ورضوان زيادة، وسهير الأتاسي، وبرهان غليون، وجورج صبرا، عبد الرزاق عيد وغيرهم. أو من افتتح النيران الطائفية من أول يوم بأصوات عالية منكرة لا داعي لذكرها لكثرتها في فضاء الإعلام. من لم يتغيّر خطابه -وللحقيقة التاريخية- هم جماعة ومؤيدي منهج الإخوان المسلمين، في تقديم أكثر من وجه ولون حسب الطلب واللحظة وسهولة التنصل والتراجع مما قيل او سيقال بما يخدم مشروعهم النهائي اللاسوري بالوصول للسلطة.

بنفس الوقت لم يكن النظام السوري وأبواقه الإعلامية يصرحون بهذا الخطاب الطائفي على الفضائيات والجرائد، لكنهم كانوا يمارسونه على الأرض ليعطوا الأرضية الصلبة لتلك الأصوات.كدليل منسيّ الآن، الفيديوهات المسربة من أعمق أنفاق المخابرات السورية في الشهور الأولى للثورة بما حملته من أصوات فقط تتكلم ما يسمى اللهجة العلوية، ومن السذاجة المفطرطة أن نصدق أنها كانت محض صدفة أو فوضى في جهاز حكم سورية مدة 40 عاما.

لم يكن الإعلام الغربي -المفترض بسذاجة أنه إعلام محايد إنساني- بعيدا عن هذا المزاد. فمع تيَقن السياسيين الغربيين من استمرار تصاعد حدة الأزمة السورية وتزايد المأساة الإنسانية، ولكي يضمنوا حيادية الرأي العام في بلادهم، كان لا بد للإعلام من خلق صورة مخيفة للغربي أكثر منها مدّرة لتعاطفه الإنساني. لقد حوّل الإعلام الغربي بمساندة عربية المشهد السوري لمشهد حرب قبائل بدائية تأكل الأكباد وتنتزع القلوب على معايير العقيدة وبنفس الوقت حاكم ديكتاتوري سيء لحد ما يقاتل القاعدة، وطبعا الخوف هو الغريزة الأقوى إنسانيا من كل القيم، فصمت الغربي وأدار رأسه جانبا. خاصة وأن السوريين الذين استطاعوا الوصول للإعلام الغربي وللمرة المليون خلال قرن فاجؤونا أنهم ما زالوا يعيشون حالة عقدة النقص اتجاه الغربي وكل ما يهمهم أن يقول لهم الغربي “Wow, what a bitty that your people are not as brilliant and sensitive as you”.

ضمن ضوضاء هذا المزاد على الوطن والأديان والأخلاق يتحرك السوق مرتاحا خلف الجدران، فمن يراقب أنفاق جريان بلايين الدولارات ضمن المحيط الجغرافي لسورية -وهذا موضوع مقال قادم- سيصيبه الذهول ويفقد جواب السؤال “من هو عدومن؟”.

06/12/2013