Thu. Mar 28th, 2024

Alaa Alkhatib

علاء الخطيب

ما هي العلمانية؟

 08/10/2016

علاء الدين الخطيب

مدخل

العلمانية ليست ضد الدين، بل ضد تدخل رجال الدين في الدولة بنظامها وقوانينها وتشريعاتها باسم الدين. وهي بالترافق مع الديمقراطية الشرط الموضوعي الأساسي لإنشاء الدولة العصرية المستقرة. وليست الحرب المُشنة عليها سوى الفصول الأخيرة للديكتاتورية العربية الممتدة قرونا طويلة للوراء، سواء حرب الإسلامية السياسية أم حرب السلطة العربية الديكتاتورية.

هذا هو الجزء الرابع من سلسلة “سوريا الديمقراطية العلمانية ضرورة وحل”، والتي سبق نشر أجزاءها الثلاثة على شبكة جيرون. في هذا المقال نتناول مفهوم العلمانية والذي يشكل ضرورة موضوعية لحماية الديمقراطية والدولة السورية المستقبلية.

مقدمة

ربما يكون مصطلح العَلمانية من أكثر الإشكاليات التي شغلت الإعلام العربي خلال العقد الماضي، وتنوعت التعريفات الأكاديمية والتنظيرية والخلافات حول دقة الترجمة لكلمة Secularism، وطبعا تنوعت بواعث الاختلاف بين مدافعين مؤمنين بالعلمانية، وهم القلة، وبين رافضين ومهاجمين لها، وهم الكثرة؛ كون الأكثرية هاجموا ورفضوا العلمانية يعود لأسباب كثيرة متداخلة بعمق مع مشاكلنا المعقدة في هذه المنطقة، لكن يمكن اختصارها ببضعة نقاط أساسية:

أولا، النظام السلطوي العربي الديكتاتوري، الذي حارب، وبكل أشكاله ملكية أو جمهورية أو أميرية، انتشار مفاهيم الحداثة كلها، وخاصة ثقافة الديمقراطية والعلمانية؛ وأتاح – ليس من باب الاختيار لكن من باب الواقعية – المجال فقط لانتشار الفكر الإسلامي السياسي، الذي يسهل التحكم به ومراقبته، فهو لا يشكل خطرا حقيقيا على السلطة، لكونه متناقض موضوعيا وذاتيا مع العصر. ولعل مقولة “إن الحكام العرب القوميين مثل عبد الناصر، ومبارك، والأسدين، وصدام، والقذافي علمانيون” هي من أكبر الأكاذيب التي سيطرت على الفضاء العربي خلال العقود الماضية.

ثانيا، صعود الإسلام السياسي بكل مشاربه، وأي دين سياسي يقتضي بالضرورة محاربة العلمانية والديمقراطية؛ هذا الصعود تغذى على هروب جماعي للشارع إلى الغيبيات والدين في مواجهة سلسلة الهزائم الداخلية والخارجية، كما أنه استفاد من مناورات كل السلطات العربية مع المحرض الديني الإسلامي، سواء السني أو الشيعي.

ثالثا، وجود دعم سياسي ومالي وإعلامي كبير للإسلامية السياسية تاريخيا، بدءا من صراعات السلطات العربية، مرورا بالحلف الأميركي الإسلامي لمحاربة الشيوعية إبان الحرب الباردة، وصولا إلى مرحلة الصراع السلطوي السعودي الإيراني، المستحوذ على أموال النفط، حيث استخدم الطرفان كل أسلحتهم الإسلامية الطائفية تحت رايات السنة والشيعة، وليس انتهاءً بالفوضى التي أحدثها النظام العالمي الجديد في العالم النامي. بينما عانى التيار الديمقراطي والعلماني من ندرة الدعم السياسي والمالي والإعلامي، واقتصر نشاطه على الكتب (التي لا يقرأها نسبيا أحد) ومواقع الإنترنت؛ بل حتى حين قرر الإعلام العربي تقديم العلمانية، كدليل على حرية الرأي الشكلية، انتقى ممثلي العلمانية المتطرفين الذين اعتنقوها كردة فعل، ليكونوا من حيث المنهج سلفيين جهاديين علمانيين.

ماذا تعني العلمانية

لن ندخل هنا بمتاهات الخلافات الأكاديمية والتنظيرية حول العلمانية، وهل تُكتب بالفتحة أم الكسرة، أو ماذا كتب عنها منظروها الغربيون أو العرب، ولا بالجدل البيزنطي حول أسباب نشوئها وهل ارتباطها بالرد على حكم الكنيسة، يعني أنها ليست صالحة للجواب على الإسلامية السياسية.

العلمانية ببساطة ووضوح، هي إبعاد مرجعية التفسيرات الدينية وما يُشتق منها من شرائع عن نظام الدولة القانوني والتشريعي والتنفيذي، وحجب التفسيرات الدينية الإقصائية عن سلم القيم الأخلاقية الاجتماعية والثقافية. ولا يعني ذلك رفض الدين كحقيقة وحاجة إنسانية تقوم على حرية الاختيار، ولا رفض القيم الأخلاقية الدينية التي تتوافق مع القيم الأخلاقية الإنسانية العامة. لكي يتضح التعريف لا بد من إيراد أمثلة مباشرة، وإشكالية يثيرها معارضو العلمانية.

المثال الأول،لا يمكن للدولة أن تكون متديّنة أو مؤمنة، فالدولة هي إطار تنظيمي للعقد الاجتماعي ضمن حدود الدولة الجغرافية والبشرية، فالقول إن هذه الدولة مسلمة أو مسيحية لا يعني أن الدولة تؤمن بالإسلام أو المسيحية، بل يعني أن غالبية سكانها من دين معين. وبحال بلادنا، حيث الإسلام السياسي له قوة كبيرة وغالبيته لها مشروع سياسي متناقض مع أساس الدولة وهو المواطنة، لا يمكن بناء دولة قابلة للاستمرار إذا تم فرض دين أو مذهب عليها. ومن ذلك لا يمكن للدولة أن تستقيم عدلا إن حددت ديانة السلطات المكونة لها.

المثال الثاني، جميع الأديان تتفق مع القيم الأخلاقية الإنسانية بنبذ ومعاقبة الجريمة (القتل، السرقة، النصب، الاغتصاب، … الخ)، دور الدولة هنا هو وضع التشريع والقانون والسلطة التنفيذية والمؤسسة التربوية والتعليمية، لمحاربة الجريمة قبل وبعد وقوعها، باستخدام التوعية والتربية وتعزيز القيم الأخلاقية المجتمعية، وباستخدام السلطة التنفيذية في الملاحقة والعقوبة؛ أما دور الدين فهو المساهمة في تعزيز القيمة الأخلاقية والجهد التوعوي في مواجهة الجريمة، لكن ليس من حقه فرض ما هي الجريمة ونوعية العقوبة، سواء على سلم التقييم الاجتماعي الأخلاقي العام، أو على القانون.

المثال الثالث، في هذا المثال يتداخل الموقف من الحرية الفردية مع المفاهيم العلمانية، ففي بلاد استقرت بها العلمانية، الإشكالية المستمرة التي تواجههم هي في ضبط تطرف الحرية الفردية بما يحمي المجتمع، وأيضا بما يحمي حق الحرية بحد ذاته، أما في بلادنا فبالإضافة لتلك الإشكالية المعقدة، يوجد انتشار لسلطة دينية معنوية، وأحيانا جبرية، تحد من حرية الأفراد وتسعى لتصنيع “قالب” حسب رؤيتها.

لم تتفق كل المجتمعات الإنسانية والأديان والتفسيرات الدينية على تجريم بعض السلوكيات الإنسانية الفردية، مثل شرب الكحول، التدخين، تناول الطعام والشراب الغير صحي، اللباس، العلاقات الجنسية خارج الزواج، لكنها اتفقت لحد ما على تخطيء نسبي لبعضها سلوكيا أو أخلاقيا أو علميا، وبدرجات مختلفة، وبقبول بعضها كحق فردي إنساني لا حق للمجتمع أو أي سلطة التدخل بها؛ هذا التباين في التقييم هو حق حرية للمجتمع والسلوك الفردي، لا يمكن للقانون منعه إلا في حالاته القصوى (فرض ضرائب مرتفعة على الكحول والدخان، معاقبة الاغتصاب، منع تجارة الجنس، منع التدخين بالأماكن العامة، … الخ)؛ إذا مهمة الدولة هنا منع أو مواجهة الإفراط والتطرف  في بعض السلوكيات، من خلال القانون إذا كانت النتيجة تؤدي لضرر مباشر على الآخرين، أو من خلال التوعية والثقافة؛ وحدود السلطة الدينية لا يمكن أن تتجاوز التوعية ضمن إطار القانون والحقوق الإنسانية، بمعنى لا حق للدين بفرض سلم تقييم أخلاقي ضد من يخالف تعاليمه في السلوكيات الفردية، وممارسة ضغط اجتماعي ونفسي، فمثلا، ليس من حق طبقة رجال الدين ترويج محاربة المرأة الغير ملتزمة بلباس معين من باب أنها منحلة أخلاقيا أو مارقة دينيا، كما أن ليس من حق الدولة منع أو فرض لباس أو مأكل معين على الأفراد.

قد تثير هذه الأمثلة الكثير من الجدل، وقد حصل ذلك خلال العقود الماضية، لكن للأسف كان وفق منهجية عبثية تعتمد التطرف بالنقاش، واجتزاء الحقائق عند طرح الأمثلة حول الدول الغربية، والإجابة على هذه الحجج، رغم سطحيتها، تحتاج لأكثر من مقال.

ما يجب إعادة تقريره كحقيقة موضوعية ودينية هو: إن الدين هو قرار حر للإنسان، ولا يوجد دين يطلب أن يؤمن الناس به قسرا، وليست غاية الدين خلق الإنسان الكامل، بل التشجيع على الاقتراب من الكمال حسب رؤية هذا الدين؛ كما أن الدين، أي دين، إقصائي بحد ذاته، لأنه يفترض مسبقا أنه صاحب الحق المطلق، لكن يوم يتم تسخير الدولة لخدمة الدين، يتحول هذا الاقصاء المعنوي الغيبي من إيمان فردي إلى ممارسة ظالمة للآخر، تفقد الدولة واجبها الأول والأساسي، وهو تحقيق أفضل شكل ممكن للعدالة بين المواطنين؛ وهنا يأتي دور العلمانية بحماية الدولة من أن تكون أداة للسلطة الدينية، أو أن يكون الدين أداة للدولة، وبالترافق مع الديمقراطية ينتج ذلك حتميا، حماية الدين من السياسة، ومن الخراب الذاتي على يد السلطة الدينية المنبعثة منه إن غابت العلمانية والديمقراطية.

الديمقراطية والعلمانية

العلمانية بدون ديمقراطية ليست فقط بطة عرجاء، بل هي جمل بلا سيقان؛ فعلمانية ستالين دون ديمقراطية أسست لخراب الدولة من داخلها، وما كان لعلمانية أتاتورك، مع الديكتاتورية التي فرضها أن تضمن استقرار تركيا، لولا أن تركيا بدأت طريق الديمقراطية. أيضا الديمقراطية بدون علمانية لا يمكن أن تعمل، لكن لا يوجد مثال بين دول العالم يتم تقديمه، فكل الدول الديمقراطية هي علمانية بالضرورة، وإن اختلفت أشكال العلمانية بينها. هناك أطروحة تقول: “حسنا، لنكن البادئين ونؤسس ديمقراطية دون علمانية”، هذه الأطروحة متناقضة ذاتيا من حيث الشكل والمضمون، والأمثلة التي طرحناها في هذا المقال وما قبله تؤكد ذلك، بكل الأحوال هذه مقولة تحتاج مقالا مستقلا.

هل يمكن للنظام المدني أن يعوض النظام العلماني؟

كان الإخوان المسلمون المصريون أول من طرح شعار “الدولة المدنية” كبديل “للدولة العلمانية”، هذا الطرح تم رفعه وفق مفاهيم غائمة غير محددة، مفترضا سلفا أن الغالبية الشعبية يمثلها فقط فهم الجماعات الإسلامية للدين، ومتحججا بأن سمعة العلمانية “السيئة” لا تسمح بطرح العلمانية (رغم أن هذه الجماعات بالتحالف مع السلطة العربية هي من كذبت بتشويه سمعة العلمانية).

ليست التسمية مشكلة بحد ذاتها، إذا اتفقنا على المبادئ الأساسية، لكن المشكلة مع غالبية من يطرح شعار “الدولة المدنية” أنه يطرحها من باب تجريد العلمانية من أهم أسسها وهي “عزل سلطة رجال الدين عن الدولة”، أي أنه ببساطة يدعي أن الديمقراطية فقط تكفي لإنشاء دولة عصرية، وطبعا دون أي دليل موضوعي ولا أي حالة موجودة بالعالم. 

يوم يتم تعريف المدنية وفق أسس العلمانية، يمكن وقتها لما يسمى الدولة المدنية الحلول مكان تسمية الدولة العلمانية، أما التلاعب بالمصطلحات لإبقاء سلطة رجال الدين قائمة في فهمهم الخاص للدين، من خلال خدعة الدولة المدنية، فهو تأسيس لديكتاتورية سياسية دينية ستعيق حتميا مشروع بناء الدولة العصرية.

العلمانية ليست ضد الدين

عملت ماكينة إعلامية عربية وإسلامية ضخمة منذ عقود على ترسيخ مقولة “العلمانية ضد الدين”، وأيدت كلامها بالتجربة الغربية، بأسلوب انتقائي وكاذب، وأيضا بسيل من الفتاوى واستثارة المشاعر الدينية عند الشارع.

بالواقع يوم تترافق العلمانية مع الديمقراطية هي تحمي الدين من خلال حماية المؤمنين به، تحميه من تسلط طبقة رجال الدين في خدمة الصراع السياسي السلطوي. وهذا ما يثبته تاريخ المسلمين قبل غيرهم، حيث ساد تحالف مقدس بين السلطان (خليفة، أمير، سلطان، ملك) وبين طبقة الشيوخ والفقهاء من كل المذاهب، وهذا التحالف أدى لعصور ظلام دينيا وعلميا وحضاريا امتدت خلال الثمانمائة سنة الماضية، أساءت للدين والمؤمنين، وجعلتهم يستفيقون فجأة في القرن العشرين في مواجهة سؤال الدولة العصرية بجعب خاوية إلا من فتاوى أكل الزمن عليها وشرب، وزاد وشوّه.

 

خاتمة

الديمقراطية والعلمانية هما الشرطان الأساسيان لإنشاء الدولة العصرية، وبالحال السورية هم السبيل الوحيد لإنقاذ مستقبل أطفال سوريا، من الضياع بين ديكتاتورية غاشمة كالنظام الأسدي الحالي، وبين إسلامية سياسية شعبوية انتهازية لا تملك أيا من أسس إنشاء الدولة العصرية.

الإسلام السياسي بحاجة لتحليل أكثر نقاربه في مقالات قادمة.

 08/10/2016

المراجع:

للمزيد يمكن مشاهدة هذا الفيديو حول الموضوع: ما هي العَلمانية؟ح3-سلسلة الدولة الديمقراطية العلمانية وحقوق الانسان كحل وحيد

(1)مقال شكل سورية المقبل هو بداية الحل”

(2) مقال “الدولة الديمقراطية العلمانية ضرورة وليست خيارًا

(3) مقال “ما هي الديمقراطية

(4) دراسة “هل سورية بين خيارين فقط: النظام أو الإسلاميون؟

رابط مختصر: http://wp.me/P2RRDZ-w8