Fri. Mar 29th, 2024

Alaa Alkhatib

علاء الخطيب

الأحجية التركية الروسية

04/03/2016

علاء الدين الخطيب

 

تتصاعد الأزمة التركية الروسية منذ نهاية 2015 بشكل دراماتيكي وكلا الحكومتين تشنان حربا إعلامية عالية اللهجة تشحن شعبي هذين البلدين ضد الآخر. حاولت الاطلاع على كثير من المقالات والتحليلات من مختلف وجهات النظر حول السبب الحقيقي لهذا التصعيد المفاجئ بين بلدين كبيرين عاشا حوالي العشر سنوات قبل 2015 بشهر عسل.

قبل المضي لتفسيرات هذه الأزمة أشير بسرعة لقوة العلاقات الروسية التركية في نهاية العام 2015:

ما زالت روسيا الشريك التجاري الثاني لتركيا منذ العام 2005 بعد ألمانيا، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام 2014 إلى 31 بليون دولار أي 8% من مجمل حجم اputin erdoganلتبادل التجاري التركي الخارجي. شكل حجم التجارة الروسي التركي حوالي 4% من حجم التبادل التجاري الروسي مع الخارج في نفس العام. تعتمد تركيا بشكل أساسي على استيراد الغاز من روسيا عبر الأنابيب حيث شكل الغاز الروسي في نفس العام 56% من الغاز المستهلك بتركيا، وتشكل الكهرباء المولدة من الغاز 44% من مجمل التوليد الكهربائي في تركيا. كما أن تركيا هي ثاني أكبر مستورد للغاز الطبيعي الروسي بعد ألمانيا بحصة 14% مما تصدره روسيا. (لتفاصيل أكثر حول العلاقة الروسية التركية، اضغط هنا)

تمحورت التفسيرات المقدمة حول هذه الأزمة الخطيرة بشكل أساسي حول الأفكار التالية:

1-    الأزمة السورية: هذا الربط موجود ضمن كل التفسيرات المقدمة من كل وجهات النظر. سواء ممن يرون الحكومة التركية طامعا عثمانيا جشعا أو من يرونها صديقا مخلصا للشعب السوري ضد الديكتاتور.

لكن السؤال الأساسي هنا: التدخل التركي والروسي والإيراني في سورية موجود بقوة منذ 2011، واستمرت العلاقات السياسية والاقتصادية بين هذه البلدان الثلاثة بتحسن مستمر حتى نهاية 2015. بل إن تركيا وروسيا كانوا قريبين جدا من بناء أول محطة طاقة نووية في تركيا وأكبر خط نقل غاز من روسيا، فما هو الخطر الهائل الذي ظهر فجأة بين البلدين لرمي كل هذه المليارات من الدولارات في خريف 2015؟ لا بد من الإشارة إلى أن علاقات تركيا وإيران ما زالت بأفضل مستوياتها الاقتصادية.

2-    القضية الكردية: أظهر الروس في بداية 2016 أنهم يريدون دعم الكورد لإقامة دولتهم المستقلة في جنوب تركيا نكاية بالأتراك.

 لم يمارس الروس تدخلا حاسما في الأزمة الكردية التركية تاريخيا خلال العقود الماضية يمكن مقارنته بموقف الغرب حليف الأتراك وشريكهم في حلف الناتو. التطور في العلاقات الروسية الكردية أتى خلال الشهور الماضية كما هو واضح لكي تستطيع روسيا استخدام هذا الكرت في أزمتها المتصاعدة مع تركيا. وعلى المدى الاستراتيجي ليس من مصلحة روسيا اشتعال بؤرة توتر أخرى على حدودها فأزمات الشيشان وأرمينا وجورجيا وأخيرا أوكرانيا تكفيها. والأهم أن إيران وهي الحليف الاستراتيجي الأهم لروسيا بعد الصين تعارض بشكل كامل قيام دولة كردية مستقلة.

3-    التفسير المؤامراتي التقليدي: يتنافس الطرفان مع حلفائهما على طرح المؤامرة الكونية إعلاميا بين الناس. ففي روسيا التفسير المقدم هو أنها مؤامرة غربية شيطانية مستمرة تستخدم العثمانيين والوهابيين الخليجيين ضد روسيا. بينما يقدم الجانب التركي نظرية أنها مؤامرة روسية شيعية وحتى غربية ضد تركيا الصاعدة التي ستقود العالم الإسلامي وتصبح قطبا دوليا. يلتقي التفسير الأخير مع العواطف الساذجة لبعض عامة المسلمين السنة الذين بنوا أوهام الخلافة الإسلامية السنية ويتبنون نظرية المؤامرة الشيعية الفارسية.

هذا التفسير المؤامراتي الشعبوي يسقط أمام أرقام الأموال الهائلة، فلا يوجد شريك تجاري يمكن أن يعوض روسيا بالنسبة لتركيا ولا بالعكس. وحتى استراتيجيا فالروس كانوا أقرب للنظرة التركية حول القضية الكردية مقارنة بالغرب. طبعا من يؤمن بالغيبيات والقوى الإلهية ضمن المؤامرات لن تقنعه أي حجة موضوعية.

4-    إسقاط الطائرة الروسية: يمثل هذا الحدث طبعا شرارة انطلاق الأزمة التركية الروسية.

لكن موضوعيا لا يمكن أن يكون السبب الحقيقي لهذه الأزمة. فالتاريخ الحديث مليء بحوادث مشابهة وربما أخطر منها ومع ذلك كانت الدول تتجنب التصعيد إذا كان ضد مصالحها الاستراتيجية.

5-    قصر نظر أو عنفوان الحاكمين التركي والروسي: أيضا هنا حسب موputin erdogan2قف المحلل يرجع السبب إما إلى غباء أو عنفوان وقوة القيصر الروسي بوتين أو السلطان العثماني أردوغان.

أيضا هنا نعود لحقيقة أن الدولتين هما من أقوى دول العالم عسكريا واقتصاديا ولا يمكن أن تحصل حرب مجنونة بين الدول فقط بسبب مزاجيات الحاكم. عدا عن قوة العلاقات بينهما التي أسلفنا الكلام عنها.

إذا ماذا حصل بين روسيا وتركيا؟

لا يمكنني الجزم بتفسير متكامل لهذه الأزمة مدعوما بمعطيات واضحة. قد يكون السبب هو تراكم ما سبق من تفسيرات. مضافا لذلك نظرية ترى في النظام العالمي الجديد والقديم فوضى داخلية أو نقاط ضعف تمنعه من أن يكون نظاما بالمعنى الحرفي للكلمة.

قد تكون البداية منذ انفجارات الربيع العربي ودخول العديد من الحكومات في أزمة اتخاذ القرار السريع للتعامل مع الانفجارات المتسلسلة التي حصلت. وخاصة بالنسبة لسوريا، فلم يكن أحد من حكومات الإقليم والعالم يصدق أن تجربة مصر أو ليبيا قد تتكرر في سوريا، لأن النظام السوري الحاكم أقوى من البقية بكثير وتحالفاته المتشعبة مع الشرق والغرب تجعله آمنا بامتياز.

يبدو أن غالبية حكومات الجوار السوري بالإضافة لروسيا احتاجوا لوقت طويل لاستيعاب خطورة ما يحدث بسوريا، لكن ذلك أتى متأخرا بعد أن تورط كل طرف بطريقة خاطئة في الأزمة السورية. فكلا حكومتي تركيا وروسيا تدخلتا في سوريا بشكل خاطئ تماما على مقياس مصالحهم الاستراتيجية.

كلا الحكومتين بالسنين الثلاث الأولى سلموا مفاتيح التدخل لحكومات أخرى حليفة، فروسيا بقيت واقفة خلف الحكومة الإيرانية في دعم النظام السوري، والحكومة التركية بقيت واقفة خلف الحكومة القطرية. وكلا القناتين كانتا أكثر تهورا وأقل خبرة بحيث تحققان المصالح الاستراتيجية لحلفائهما.

كما أن كلا الحكومتين وضعتا كل بيضهما في سلة واحدة واعتمدتا على حصان خاسر. فالحكومة الروسية راهنت على النظام السوري المتعفن بهوسه السلطوي وبنيته الفاسدة عسكريا وأمنيا، والحكومة التركية راهنت على الإخوان المسلمين السوريين وحلفائهم وهم الحزب القصير النظر الإقصائي والخبير فقط بالعمل تحت الأرض والذي اتضح أنه بفساد كل الأحزاب السياسية العربية.

وفي صيف 2015 كانت المفاجئة القاسية لروسيا وتركيا إذ أن كلا البلدين مُهدد بمصالحه الاستراتيجية وقد تورط لحد الغرق في الأزمة السورية فكان السعي لإيجاد طريق النجاة بأقل الخسائر الممكنة. لكن هذا السعي تحول لتخبط وضبابية بالرؤية لدى كلا البلدين اللتين يصارع رئيسها، كل ببلده، لصياغة نوع من السلطة المطلقة لنفسه على حساب فرملة الطريق الديمقراطي، وبنفس الأسلوب التقليدي: تضخيم عدو خارجي (الارهاب الداعشي)، وتقديس بطولة وشجاعة الرئيس.

لكن بوتين كان أسرع، وهو بطبيعة الحال بحكم حجم روسيا أقوى وأكثر استقلالية عن تأثير الغرب، فقفز إلى سوريا عسكريا ليحرز نصرا خارجيا أولا، وليقطع الطريق على أوباما بالقيام بأي حركة عسكرية مفاجئة بالشمال السوري لدعم مرشح الديمقراطيين للرئاسة في صيف 2016 الطويل. في هذه المرحلة غامر أردوغان، مخطئا مرة ثانية، في مواجهة تخيل أنها ستكون حملة إعلامية تعيد بعض البطولة له، لكن وكما حصل برهانه على القطريين والإخوان، راهن على دعم الناتو الذي لن يأتي. الناتو لا يريد مواجهة روسيا، مصالحه لا تحتاج لقفزات في الهواء.

لذلك كان التدخل الأمريكي الأخير لفرض الهدنة في سوريا أساسا للمساهمة بتبريد الأزمة المتصاعدة بين روسيا وتركيا أكثر منه لوقف الحرب في سوريا. فتطور الصراع التركي الروسي بالمدى المنظور قد يؤدي لنتائج كارثية لا تملك الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو الأدوات الكافية للتحكم به، على تركيا أن تعود لعلاقات طبيعية مع روسيا هذه السنة للحاق بمصالحهما المشتركة، وتجاوبا مع الناتو الغير مستعجل.

الجغرافيا هي الكلمة الفصل

المصالح الأمنية القومية العليا لروسيا وتركيا وإيران، بسبب جوارهم حول بحر البلطيق، ودول وسط آسيا، سيفرض حكمه على قيصر موسكو وسلطان أنقرة بالنهاية.

 

04/03/2016