18/08/2018

علاء الدين الخطيب

1         مدخل

مارس غالبية رجال الدين الإسلامي، بمختلف مراتبهم ومذاهبهم وألقابهم، السلطة الدينية منذ نهايات القرن الثاني الهجري، وتزايدت سلطتهم مع الزمن كمستوى ثاني بعد السلطة السياسية، بخلاف السلطة الكنسية المسيحية القروسطية التي كانت بالمستوى الأول سلطويا. تم ترسيخ هذه السلطة من خلال عدة سنن فرضوها مع الزمن، حتى لو عارضها بعض منهم، وأهمها: منح الشيوخ أنفسهم المرتبة الثالثة في أحقية التشريع بعد القرآن والسنة من خلال فرض الإجماع، الذي ينال من يعارضه على الأقل النبذ والتفسيق إن لم يكن التكفير[2]. بعد هذا التأسيس “التشريعي الديني”، احتكر الشيوخ الكلام باسم الدين، وقسموا المجتمع المسلم إلى “الخاصة” وهم أهل العلم الديني والسلطة السياسية والاجتماعية، و”العامة” وهم عموم الناس ممن لم ينالوا علما دينيا؛ وذلك أدى إلى أنهم أيضا سيطروا على غالبية أدوات العلم والتعلم. فلم يغادر رجال الدين الإسلامي سنة احتكار العلم التي مارسها غالبية رجال كل الأديان عبر التاريخ البشري، باستثناء الحضارة الإغريقية والرومانية قبل أن تصبح مسيحية.

تتجلى أهمية البحث في دور الشيوخ في سير العلم والمنهج العلمي ضمن المجتمعات الإسلامية، في أن هذا الدور لم ينته إلى اليوم وما زال يمثل إعاقة أمام المعارف الدينية نفسها، وأمام ثقافة العلم ومنهجيته التي تحتاجها المجتمعات البشرية حاجة ماسة في القرن الواحد والعشرين.

البحث لا يناقش أهمية العلم والتعلم كأحد مؤسِسات الدين الإسلامي بجوهره الأصلي، فالتحريض على التعلم والتفكير والنقاش والشك هو من أساسيات الخطاب القرآني. لكنه يناقش كيف تناول الشيوخ المسلمون هذا المفهوم وكيف فسروه وتعاملوا معه، وبحكم سلطتهم المعنوية كيف فرضوه على المجتمعات الإسلامية إلى يومنا هذا، من خلال مقارنة بنية المعارف الدينية ببقية المعارف البشرية، وموقف الشيوخ من العلم والتعلم ماضيا وحاضرا، وطرح مثال على أحد الأحداث الكبرى التي أخرت النهضة العلمية وهو دخول آلة الطباعة للدول الإسلامية.

هذا الكلام لا يعني أبدا تحميل التيار الإسلامي السياسي أو الدعوي كل الآثام، فهذا كلام خارج العقل والمنطق، لكن بنفس الوقت إن إهمال دوره الأساسي والسلبي سيكون إما خوفا من جدار المحرم الذي أنشأه شيوخ الإسلام، أو تقديسا له وفق منهج النقل الذي سيطر على تاريخ المسلمين خلال الألف سنة الأخيرة.

قبل المضي بهذا البحث لا بد من توضيح أن كلمة “شيوخ” ضمن هذا البحث تشمل رجال الدين الإسلامي بمختلف مذاهبهم ومراتبهم وألقابهم وتخصصاتهم، وأيضا فإن استخدامها لا يعني التعميم بالمطلق على كل الشيوخ في أي فكرة ترد ضمن البحث بل على الغالبية منهم.

2         المعارف الدينية تسير عكس العلوم الإنسانية بنيويا

تتشكل المعارف الإنسانية بشكل تراكمي عبر الزمن، فكل جيل يعرف ما عرفه من سبقه ويضيف عليه، وكذا العلوم الإنسانية كلها والمعارف الدينية.  لكن الفرق الأساسي بين المعارف الدينية وبين بقية العلوم الإنسانية والخبرات البشرية هو أن المعارف الدينية تراكمية لكن بشكل مقلوب وليس مثل بقية العلوم. فعلوم الرياضيات أو الطب وغيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية، رغم أن جديدها يستفيد ويبني على قديمها، لكن الجديد فيها له سلطة احتواء أو تعديل أو إلغاء القديم، فقانونها أن الأصح والأحق هو الأحدث وليس الاقدم، مهما بلغت عبقرية القديم في زمانه. أما فيما يسمى علوم الدين، فكلما مرّ الزمن كلما زادت سيطرة القديم وأولويته على الجديد، فحقل المعارف الدينية يرفض قانون التطور الزمني؛ وهذه إشكالية واجهت كل الأديان في العالم ومنها الإسلام.

سبب هذه المنهجية الإنسانية في القراءة الدينية يعود إلى أن كل دين له نقطة بداية، تمثل ظهور الرسالة الدينية بكل قدسيتها عبر النبي الرسول وما ينقله من نص أو تعاليم إلهية مقدسة، هذا التقديس هو أساس الدين طبعا وبالتالي ليس محل نقاشنا هنا، لكن المشكلة التي تظهر مع مرور الزمن، هي أن التطور المعرفي الديني وبسبب عملية إسناد معارفه إلى الأصل المقدس الأول، يوسع دائرة المقدس لتشمل معاصري زمن الأصل المقدس (الرسالة أو التبليغ أو التبشير)، ثم الأقرب لذلك العصر، فالأقرب للأقرب وهكذا دواليك. دائرة المقدس هذه تنمو تلقائيا، وبدون وعي في غالب الأحيان، لكن مع مرور الزمن تبني معصوميتها وقلاعها، فلا تنحصر الإحالة والتدليل والحجة على الأصل المقدس الأول، بل أيضا على قراءات الأقرب زمنيا للأصل المقدس، فيسيطر فكر أهل الماضي على عقول أهل الحاضر، والذين بدورهم يجهزون أدوات السيطرة الفكرية على عقول أهل المستقبل.

.  

3         موقف شيوخ الإسلام من العلوم الغير دينية:

رسخ شيوخ الإسلام مفهوم أن العلم ذا الأفضلية والمكانة والمفروض على المسلمين هو العلوم الشرعية بالإضافة لبعض علوم الطب والحساب، ولعل أفضل قراءة لموقفهم من العلم يرد في كتاب الإمام أبي حامد الغزالي “إحياء علوم الدين”. فهو يؤكد أن أشرف العلوم هو علوم الدين إذا يقول: “ وبهذا تبين أن أشرف العلوم العلم بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله والعلم بالطريق الموصل إلى هذه العلوم فإياك أن ترغب إلا فيه وأن تحرص إلا عليه”. كذلك فهو يفسر الحديثين ” طلب العلم فريضة على كل مسلم ” و ” اطلبوا العلم ولو بالصين “، ووفق سعة علمه بما قاله من سبقه أو عاصره من شيوخ الإسلام، بأن هذا العلم كفريضة عين أو كفاية هو علوم الدين بمختلف تفرعاتها، ويضيف لها علمي الحساب والطب وعلوم بعض الصنعات الضرورية للناس في حياتهم[3].

لكن ما هو فرض العين إذا برأي الغزالي حسبما رأى، ورأى غالبية من سبقه؟ إنه علم “الاعتقاد، والفعل، والترك “، أي أن على كل مسلم أن يتعلم على الأقل: الاعتقاد بالشهادتين عقلا أو تقليدا، وأن يعرف كيف يؤدي الفروض بأركانها، وأن يترك الحرام[4]. فلا يشمل العلم كفريضة عين تعلم القراءة والكتابة، ولا يوجد عالم أو شيخ مسلم حسب بحثي عارض هذا التصنيف لا ماضيا ولا حاضرا، بأن قال أن المقصود من الآيات والأحاديث التي تحض على العلم هو أن تعلم القراءة والكتابة هو فرض عين على كل مسلم؛ هذا الموقف من إهمال أهمية القراءة والكتابة هو موقف تقليدي من رجال الدين عموما، فهو موقف يقوم على نظرة فوقية لعامة الناس؛ وهو موقف متكرر في كتب القدماء والمعاصرين، والغزالي يوضح هذا الموقف لدرجة الدعوة لكفّ الناس عن بعض العلوم، مثل الفلسفة، فيقرر “ ولا ينكر كون العلم ضارا لبعض الناس كما يضر لحم الطير وأنواع الحلوى اللطيفة بالصبي الرضيع، بل رب شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور”[5]. قد يقول قائل إن هو إلا موقف الإمام الغزالي فقط، لكن من يمضي في قراءة “كتاب العلم” ضمن كتابه “إحياء علوم الدين”، يرى أن الغزالي لا يبني رأيا شخصيا بل هو يستشهد بكلام كبار الشيوخ ممن سبقوه مثل الشافعي والمالكي وغيرهم.

هذا الموقف من العلم لا يتوقف عند تقديم علوم الدين على العلوم الأخرى، بل يتعدى إلى الدعوة إلى نبذ وتفسيق وتكفير كثير من علماء المسلمين الكبار الذين أبدعوا في علوم الطب والفلسفة والكيمياء والفيزياء والرياضيات والفلك، والذين تدين لهم الحضارة البشرية كلها، والذين لم يعلم عموم المسلمين فضلهم إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. فعلى سبيل المثال أورد ما قاله كبار شيوخ الإسلام في حق بضع من أشهر علماء المسلمين.

3.1        ابن سينا[6]

ذكر الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء ” قد سقت في ” تاريخ الإسلام ” أشياء اختصرتها، وهو رأس الفلاسفة الإسلامية، لم يأت بعد الفارابي مثله، فالحمد لله على الإسلام والسنة. وله كتاب ” الشفاء “، وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب “المنقذ من الضلال” وكفر الفارابي”[7]. كما أن ابن الصلاح في كتاب “فتاوى ابن الصلاح” وفي رد على سؤال: “مَسْأَلَة فِي جمَاعَة من الْمُسلمين المنتسبين إِلَى أهل الْعلم والتصوف هَل يجوز أَن يشتغلوا بتصنيف ابْن سينا وَأَن يطالعوا فِي كتبه وَهل يجوز لَهُم أَن يعتقدوا أَنه كَانَ من الْعلمَاء أم لَا؟ أجَاب رَضِي الله عَنهُ لَا يجوز لَهُم ذَلِك وَمن فعل ذَلِك فقد غرر بِدِينِهِ وَتعرض للفتنة الْعُظْمَى وَلم يكن من الْعلمَاء بل كَانَ شَيْطَانا من شياطين الْإِنْس”[8].

3.2       جابر بن حيان[9]

قال فيه ابن تيمية “وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية، فمجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم” وتابع القول في تحريم الكيمياء فقال “والكيمياء أشد تحريما من الربا”، وكان قبل ذلك قد استدل، حسب عقله وعلمه بزمانه، بحجة مضحكة مبكية حيث قال “ولم يكن في أهل الكيمياء أحد من الأنبياء، ولا من علماء الدين، ولا من مشايخ المسلمين، ولا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان”[10].

3.3       الخوارزمي[11]

قال فيه ابن تيمية “وهو المشهور باختراع الجبر والمقابلة، وكان سبب ذلك المساعدة في حل مسائل الإرث، وإن كان صحيحا فإن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره، لأنه مُنَجم ومترجم لكتب اليونان”[12]، وللأسف لم يعرف المسلمون قيمة الخوارزمي حتى أخبرهم الغرب بعد قرون أن ما قدمه الخوارزمي في علم الجبر وإدخال الصفر يُعتبر من أكبر الإضافات في تاريخ الرياضيات وبالتالي العلوم كلها.

3.4       علماء آخرون

سريعا أورد أخبار ما فعلوا مع آخرين من العلماء، الذين لم نعرف فضلهم إلا مؤخرا. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الكندي: “كان يقال له فيلسوف العرب، وكان متهماً في دينه بخيلاً ساقط المروءة”؛ قال ابن القيم في “إغاثة اللهفان” عن أبي بكر الرازي “إن الرازي من المجوس” و”إنه ضال مضلل”؛ وعن ابن الهيثم: “إنه كان من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام، وكان سفيها زنديقا كأمثاله من الفلاسفة”.

هل ما ورد من مواقف لكبار شيوخ الإسلام انتقائي؟ بالواقع لم أجد أي مصنف إسلامي أو كتاب في علم الرجال وطبقاتهم قال كلاما يعلي فيه من شأن من ذكرنا من كبار العلماء، والذين قدموا للإنسانية بالتالي وللمسلمين علما أهم وأكثر نفعا من كثير مما قدمه عديد من كبار شيوخ المسلمين. فالإسلام يقرر في القرآن الكريم أن الله أتم دينه مع وفاة رسوله، وكل ما أتى بعده من شروح وتفاسير وتصنيفات وفقه واجتهادات وروايات بجهود محمودة في العديد منها في زمانها، لا يمكنه الادعاء أنه أضاف للإسلام إضافة ضرورية لا يقوم الإسلام بدونها، كما يقرّ الشيوخ المسلمون أنفسهم. لكن أمثال العلماء الذين ورد ذكرهم أضافوا الكثير، مما لو لم يحصل لتأخر تاريخ التطور البشري العلمي قرونا.

هذا الكلام لا يعني الانتقاص من جهود وإنتاج شيوخ الدين الإسلامي، لكنه نقد لموقف تاريخي منحهم أكثر مما يجب مقارنة بالعلماء الآخرين، ومقارنة أيضا بأهمية ما قدموه إذ ما قسناه على مدار 1400 سنة، والقياس طبعا ليس بعدد الصفحات والمجلدات بل بالمحتوى المتطور زمنيا.

4         موقف شيوخ الإسلام من التعليم:

لا تتوقف المشكلة هنا عند موقف غالبية شيوخ الإسلام ضد كثير من علماء المسلمين، بل تتعداها إلى ترسيخ أسوء مناهج التعليم وهو “التلقين”. فيقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي “ اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوه ليحفظه حفظاً ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئاً فشيئاً فابتداؤه الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان” ويضيف ” يكون الاعتقاد الحاصل بمجرد التقليد غير خال عن نوع من الضعف في الابتداء على معنى أنه يقبل الإزالة بنقيضه لو ألقى إليه فلا بد من تقويته وإثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل. وليس الطريق في تقويته وإثباته إن يعلم صنعة الجدل والكلام”[13]. ونحن نرى حتى زمننا هذا سيطرة أسلوب التعليم التلقيني للتلاميذ، ليس فقط في علوم الدين بل أيضا في كل العلوم الأخرى، ولم يتم التنبه لخطر هذه المنهجية في تدريس الأطفال والطلاب سوى مؤخرا، وبالكاد نرى مدارسا عربية استطاعت الخلاص من هذه المنهجية في التدريس وبالتالي في التفكير.

5         المؤسسة التعليمية في تاريخ المسلمين

كما ذكرت سابقا، فمنذ القرن الرابع عشر ميلادي، الذي شهد حياة آخر علماء المسلمين ممن قدموا إنجازا علميا كبيرا على مستوى تاريخ العلم البشري وهو ابن خلدون، سيطر واحتكر شيوخ المسلمين العلم والتعليم إلى بدايات القرن العشرين.

فالتعليم الإلزامي بدء تطبيقه في أوروبا منذ القرن السابع عشر، بينما كان التعليم ما زال في السلطنة العثمانية رهينا بالمساجد والكتاتيب، والتي كانت بغالبيتها تلقن الأطفال بضعة سور قصيرة من القرآن الكريم ليحسنوا الصلاة، وقلة منهم من يتابعون تعلم القراءة والكتابة والحساب. رغم أن السلطان العثماني عبد المجيد الأول أصدر في العام 1839 فرمان الكلخانة لبدء حركة الإصلاحات في السلطنة والتي ‏تضمنت تأسيس نظام تعليمي عام، وتلاه تأسيس وزارة التربية والتعليم Maarif-i Umûmiye Nizamnâmesi في عام 1869، حيث أعلن عن أن التعليم الابتدائي (مدارس الصبيان Sıbyan mektebi) ستكون إلزامية، إلا أن هذا النظام لم يجد طريقه للتنفيذ خاصة في الولايات خارج تركيا الحالية‏[14]. هذا الإهمال لعملية التعليم أدى أن تدخل كل الدول الإسلامية القرن العشرين بأعلى نسب الأمية حسبما يوضح الجدول (1).

للأسف لا السلطة السياسية ولا الدينية الإسلامية كان همّها أن تؤسس نظاما تعليميا يؤسس لنشر العلم. بل حتى ما يُسمى جامعة الأزهر في مصر، وهي من أضخم وأقدم المراكز الدينية في العالم الإسلامي، لم تدخل العلوم الطبيعية الأخرى إلى مناهجها سوى في النصف الثاني من القرن العشرين، ولعل قصة صراع الشيخين المجددين جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده مع شيوخ الأزهر في سبيل تحديث المناهج وعصرنتها تعبر عن إشكالية الموقف الكهنوتي التقليدي لرجال الدين ضد العلم عموما كما تناولها عبد المتعال الصعيدي في كتابه “تاريخ الإصلاح في الأزهر”[16].

من ناحية ثانية تأخر إنشاء الجامعات العلمية التي تدرس علوم الطبيعيات والطب والهندسة والرياضيات وغيرها، فبينما كانت تتسارع انتشارا في أوروبا منذ القرن الثاني عشر ميلادي، نجد أن أول جامعة عصرية تم افتتاحها في إسطنبول كانت جامعة إسطنبول التقنية عام 1928، بينما في البلاد العربية فأول الجامعات العصرية كانت جامعات افتتحتها بعثات غربية في نهاية القرن التاسع عشر في لبنان، بينما تأخرت بقية الدول العربية لما بعد بداية القرن العشرين.

السؤال المنطقي هنا: هل كل هذا مسؤولية وذنب شيوخ الإسلام؟ الجواب طبعا لا، ومن يدعي ذلك إنما يجافي العقل والعلم والمنطق. لكن مساهمة شيوخ الإسلام في هذه الحالة والأزمة العلمية التعليمية التي امتدت قرونا طويلة مساهمة ضخمة لا يفوقها تأثيرا سوى سياسة السلطة أو السلطات الحاكمة صاحبة الأمر والنهي. فهذه المجتمعات أقرت وقبلت أن العلم هو عند الشيوخ، وهم أصواته وهم من يفترض أن يطلقوا حركة العلم والتعليم، وليس عموم الناس؛ فلا التاريخ ولا شيوخ الإسلام يقولون إن أحدهم أو جماعة منهم حاولت مرة منذ القرن الخامس عشر ميلادي إلى اليوم إطلاق حركة إصلاح تعليمي أو نشر للتعليم أو إنشاء جامعات متخصصة علمية.

6         مشكلة تأخير آلة الطباعة:

يشكل تصنيع أول آلة الطباعة[17] في أوروبا، في القرن الخامس عشر ميلادي، واحدة من أهم محطات التطور البشري المعرفي، فقد أدى ذلك إلى نشر العلم والمعرفة بين الناس وإخراجه من احتكار طبقة أو جماعة صغيرة تتقن القراءة والكتابة وتملك الوصول للكتب.  وقد انتقلت الفكرة بحكم الجوار الجغرافي إلى الإمبراطورية العثمانية في نهاية القرن الخامس عشر، لكن السلطان بيازيد الثاني أصدر فرمانا منع به استخدام آلة الطباعة للطباعة بالحروف العربية، أي باللغة العربية والعثمانية، بناء على فتوى من شيوخ السلطنة العثمانية في إسطنبول[18]، بينما استخدمها بعض اليهود والأرمن للطباعة بلغتهم؛ كما أن شيوخ الأزهر أصدروا فتوى تحرم طباعة الكتب الشرعية[19]، لم تتغير الحال حتى القرن الثامن عشر حين سمح السلطان أحمد الثالث باستخدامها في الطباعة باللغة العربية والعثمانية[20]. ومن المعلوم أن اختراع المطبعة كان من أهم المفاصل التاريخية في مسيرة التطور البشري العلمية، وللمطبعة فضل أساسي ومحوري على النهضة العلمية الأوروبية، والتقدم العلمي عموما؛ فليس تحريم آلة الطباعة مع ما يمثله ذلك من دفع للحركة العلمية ونشر للمعرفة عملا بسيطا وسهلا في تاريخ الشعوب. الملفت للنظر في هذه “الخطيئة الكبرى” أن عددا غير قليل من شيوخ عصرنا يرفضون حتى توجيه النقد أو الإدانة لتلك القرارات “الظلامية”، فموقع “إسلام ويب”، وهو من أكثر المواقع الإسلامية وثوقية ومتابعة عند كثير من شيوخ المذهب السني، يفرد مقالا لتبرير ما حصل واختلاق الأعذار والتبرير له، ويصرّ على خطأ نقده أو محاسبته[21].

7         هل تراجعت سيطرة شيوخ الدين الإسلامي أو راجعوا ما أنتجه أسلافهم؟

استمر ما سنّه شيوخ الإسلام الأوائل من أن أفضل وأشرف العلم هو العلوم الدينية، وأن هذه العلوم الدينية ليست مباحة للعوام، بسبب غبائهم وجلافتهم كما عبر الغزالي[22]. وقد قال كبار العلماء المسلمين في العصر الحديث ما قاله أسلافهم حول أن العلم المحمود هو فقط العلم الشرعي، وما عداه إنما يخضع للسؤال حسب الحالة، وكما حدد الشيخ ابن عثيمين في فتاويه “ إذن فالعلم الشرعي هو الذي يكون فيه الثناء ويكون الحمد لفاعله، ولكني مع ذلك لا أنكر أن يكون للعلوم الأخرى فائدة، ولكنها فائدة ذات حدين إن أعانت على طاعة الله، وعلى نصر دين الله، وانتفع بها عباد الله فيكون ذلك خيراً ومصلحة، وقد يكون تعلمها واجبا في بعض الأحيان إذا كان ذلك داخلا في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)”[23]

فكان في بدايات القرن العشرين حتى أواسطه أن يتصدى الشيوخ لكل جديد، خاصة وأن كل جديد أتى من الغرب، الذي لا يرونه سوى عدوا تاريخيا “صليبيا”، فعارضوا الطب الحديث، وعارضوا حتى السيارات والعجلات، وأقاموا حروبا ضد الفنون خاصة السينما والتلفزيون، حتى أن شيوخ الوهابية في السعودية عارضوا تأسيس منظومة البرق والهاتف التي أرادها الملك عبد العزيز. بل إن شيوخ غالبية الدول الإسلامية وقفوا ضد تدريس الفلسفة والمنطق لطلاب المدارس، فإن درست فيتم ذلك في أضيق السبل، راجع فتوى شيوخ موقع إسلام ويب في هذا الشأن[24]. ناهيك عن تدخلهم ومعارضتهم لتدريس نظرية التطور التي تشكل أساس العلوم البيولوجية في كل جامعات العالم، وفرضهم إن استطاعوا تكبير حصة تدريس المواد الدينية للطلاب في كل المدارس.

هل كل شيوخ الإسلام المعاصرين يتوافقون على هذه المواقف؟ بالطبع لا، لكن مواقفهم التي تسمى أكثر اعتدالا، لا ترقى إلى نقد منهجية النظر إلى العلم، ولا تعطي العلوم غير الشرعية أفضلية على العلوم الشرعية. فالشيخ يوسف القرضاوي، والذي يُعد برأي الكثيرين مجددا كبيرا، في تناوله لقضية العلم، ورغم جرأته في نقد بعض مما قاله السلف، إلا أنه لا يجرؤ على رفع أهمية العلوم “الدنيوية” كما يسميها إلى مرتبة تفوق العلوم “الدينية”، ولا يجادل بإعادة النظر بما قاله الغزالي حول ما هو العلم فرض العين، فلا يجرؤ أن يقول إنه الكتابة والقراءة والحساب، أي التعليم الإلزامي الابتدائي، وحتى في تناوله لما سماه “العقلية العلمية في المنظور القرآني” هو لا يشير أبدا إلى أهم محركات التطور العلمي الفلسفية وهو “مبدأ الشك”[25].

8         الخاتمة

التراكم التاريخي لسياسات السلطات الحاكمة العربية والإسلامية الشمولية الظالمة، مضافا للتراكم التاريخي لمواقف شيوخ الإسلام من العلم والتعلم والمجتمع، بالإضافة لانتشار وسيطرة نظرية المؤامرة المزعومة ضد المسلمين والعرب، أدى إلى ترسيخ ثقافة تستهين بالعلم ومنهجيته وأهميته، وتحجر حرية التفكير والشك والإبداع، وبالتالي أدى لزيادة صعوبة انطلاق هذه المجتمعات نحو الحداثة والتطور وتأسيس الدول الحديثة. فالفارق الأساسي بين الدول المتقدمة علميا وبين الدول النامية أو المتخلفة علميا لا يكمن في مستوي ذكاء الأفراد، فهذا معدل ثابت بين كل الشعوب، ولا في كمية الكتب والمراجع المتاحة للدراسة، فهذه مباحة للجميع؛ ولا في الإمكانيات المادية، فبين الدول الإسلامية من يملك إمكانيات مادية وطبيعية هائلة، ولا في حجم الدول سكانيا أو جغرافيا. بل يكمن في تأسيس ثقافة العلم والمنهج العلمي في التفكير والعمل والتفاعل والإنتاج وحرية الإبداع.

لقد بدأت شعوب هذه المنطقة التحرر من سيطرة السلطة السياسية الشمولية الفاسدة والمطالبة بالحريات والكرامة الإنسانية، وآن لها التحرر من منهجيات تفكير رجال الدين التي تم فرضها خلال قرون طويلة، لأنها منهجيات معيقة لأي تطور علمي وحضاري مأمول، وهو تحرر مهم جدا لحماية الدين الإسلامي نفسه من السجن الذي وضعه به شيوخه بكل مذاهبهم.

18/08/2018

موقع مرصد مينا

رابط مختصر

http://wp.me/P2RRDZ-LI

https://www.infosalam.com/islam/studies/ijmaa-falsy